مفاوضات العبث
محمد رشدي شربجي
من الغريب أن تجد مفاوضات جنيف العام الحالي قاعًا أعمق من قاع العام الماضي، فمن كان يخطر على باله مثلًا أن تنتقل مفاوضات جنيف هذا العام من مناقشة الانتقال السياسي على أرضية قرار مجلس الأمن 2254، أو مناقشة أي قضية أخرى تتعلق بالوضع السوري، إلى مناقشة تشكيل وفد المعارضة المفاوض… إنها قمة العبث!
قد يسمى ما يحدث ورشة عمل على سبيل المثال، تتبادل فيها أطراف متعددة وجهات النظر وتطرح الرؤى، إنه حوار تحت سقف بشار الأسد بأحسن الأحوال، ولكنه بالتأكيد ليس مفاوضات جادة يرجى منها أي تغيير ملموس، فالمفاوضات كما هو معروف (وما أسخف تكرار البديهيات) تتم بين طرفين محددين لديهما نفوذ في مناطقهما بما يضمن التزام الأطراف بمخرجات أي اتفاق، وهو ما لا يتوفر لأي منصة من منصات “المعارضة” المتكاثرة بفعل لافروف، باستثناء وفد الهيئة العليا الذي يحتوي في داخله على الأقل قادة عسكريين مؤثرين داخل سوريا، والمدعوم من دول إقليمية داعمة للمعارضة.
وإذا كان دي مستورا قد أعلن مرارًا وتكرارًا أن مرجعية مفاوضات جنيف هي قرار مجلس الأمن المذكور آنفًا، فما هي الحاجة بالضبط لعدة وفود من طرف المعارضة السورية لتفاوض على مرجعية محددة سلفًا؟ ما هي الخبرة العريضة التي يملكها جهاد مقدسي؟ والذكاء الأخّاذ عند رندة قسيس؟ والنظرة الثاقبة عند قدري جميل؟ التي لا يملكها أحد من باقي السوريين لكي يستطيع تفسير قرار معروف سابقًا.
تحتاج تصفية الثورة السورية في جنيف على غرار القضية الفلسطينية في أوسلو إلى اتفاق سياسي يبقي الوضع كما هو، ويمنّي المعارضة السورية (أو منظمة التحرير الفلسطينية عند أقاربنا المنكوبين هناك) بشيء ما في المستقبل، سيكون بالتأكيد أقل سوءًا من الوضع الحالي، المطلوب إذن هو مفاوضات بلا أفق زمني طبعًا، وتحقق اتفاقًا سياسيًا يجمد الوضع الحالي، هذه هي وصفة الولايات المتحدة السحرية في فلسطين والتي يحاول بوتين استنساخها في سوريا.
بيد أن الحالة السورية لا تنطبق على نظيرتها الفلسطينية، ففي بداية المفاوضات الفلسطينية حاولت إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، بشتى الطرق استبعاد ياسر عرفات من الوفد الفلسطيني، وقد انطلقت عدة جلسات للمفاوضات في مدريد دون جدوى، فقد كان ياسر عرفات من مقره في تونس يتحكم بالوفد الفلسطيني المفاوض كأنه بينهم، وهو ما جعل الولايات المتحدة تضطر مرغمة لدعوته إلى المفاوضات.
قوة الطرف المفاوض أن المفاوضات لا يمكن أن تمضي بدونه، فكما لا يمكن تخيل مفاوضات لا يشارك فيها النظام حتى لو تم “اختراع” وفد ممثل له، يجب أن تكون هذه الحال بالنسبة للمعارضة، أما مفاوضات يهدّد فيها دي مستورا بأنه قادر على تشكيل وفد المعارضة فيها، فهي لا يمكن إلا أن تكون مفاوضات العبث، أو وفود العبث، أو أن دي مستورا نفسه يعبث، أو كل ذلك معًا وهو ما يبدو عليه الحال.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :