الرقة والجيوش الزاحفة إليها
إبراهيم العلوش
بعد سقوط عين العرب (كوباني)، ومنبج، وجرابلس، والأنبار، وتليها الموصل والباب تباعًا، بات من الواضح أن دولة البغدادي آيلة للسقوط، وبعد كل أعمال التهجير والتعذيب التي قامت بها في الرقة، ها هي داعش تستجر الجيوش والتحالفات لتدمير المدينة فوق من تبقى من أهلها وساكنيها من السوريين البالغ عددهم أكثر من 500 ألف نسمة، فقوات سوريا الديمقراطية، والنظام، والأمريكيون، والأتراك، والروس، والإيرانيون، يتجهون جميعًا إلى الرقة عازمين على تدميرها.
قوات سوريا الديمقراطية التي احتلت الأجزاء الشمالية من ريف الرقة مثل تل أبيض وسلوك، منعت عودة اللاجئين السوريين إليها، وقامت بممارسات ضد الإنسانية، حسب تقارير منظمات حقوق الإنسان، واعتبرت المكان حكرًا لها، بانتظار قيام ما يسمى روج آفا، وتحويلها إلى جبهة مفتوحة للحرب مع الأتراك في السنين والعقود المقبلة.
النظام يزحف باتجاه الرقة لتأديب أهلها الإرهابيين الذين طالبوا بالحرية، ورقصوا لسقوط تماثيل الاستبداد ورموزه، ويزحف الإيرانيون باتجاه الرقة عازمين على ترميم المزار الطائفي الإيراني (مقام عمار بن ياسر) شرق المدينة، والذي يقارب حجمه حجم مزار السيدة زينب بدمشق، وذلك للتذكير بمعركة صفين التي جرت على شاطئ الفرات قرب الرقة. وكان كبار مسؤولي الدولة الإيرانية قد دشنوا بناءه أيام الأسد الأب، في بداية حملة اللعب الطائفي والتأسيس للهلال الشيعي، وقبل إرسال داعش لتدمير المدن ذات الأغلبية السنية وتهجير أهلها.
الأتراك يعدّون العدّة، والتحالفات، ويتجهون إلى الرقة وهم يتوجسون من ممارسات بعض الفصائل الكردية الانفصالية، ومن قيام كيان يشمل الرقة تديره مملكة جبال قنديل، التي تعلن الحرب على الدولة التركية منذ عقود طويلة، ولا ناقة لأهل الرقة فيها ولا جمل، وما منظر العرب في القرى المحتلة من قبل قوى جبال قنديل، الذين يرفعون صور أوجلان في ذكرى عيد ميلاده، إلا كوميديا بائسة تثير الشفقة.
أما الروس والأمريكيون فيلعبان الشطرنج الدولي، وما تدمير الرقة بالنسبة إليهم إلا خسارة قطعة في شطرنج تمتد مربعاته على كامل مساحات الكرة الأرضية، وأهل الرقة لن يكونوا مهمين بالنسبة للقوى الكبرى، فعندما سئلت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت عن مقتل 500 ألف طفل عراقي، قالت: إن ذلك أمر مؤسف ولكن كان لابد منه!
السؤال المرّ هو عن مصير القوى الرقاوية التي ذابت، ولم تستطع أن تتبلور على شكل تحالف سياسي أو قوة عسكرية مهمة على الأرض لتحرير الرقة.
لقد تميزت الرقة بأنها أول مدينة محررة من سيطرة النظام منذ آذار 2013، وكانت هناك فرصة ذهبية لبناء نواة سورية يحميها الجيش الحر، وتتمدد لتعمم تجربتها المدنية في أيام التحرير الأولى قبل أن تأتي ذئاب البغدادي وتستولي على المدينة لبناء دولة الذبح والسلخ ووأد النساء.
فرّ المدنيون من ممارسات داعش باتجاه تركيا، وباتجاه المدن السورية الأخرى وخاصة مدينة حماة، وامتصت داعش جزءًا من سكانها تحت التهديد والترغيب ببناء دولة إسلامية تسكن في التاريخ، وتكنّ الشر للآخرين من الناس ومن الدول، وتستعرض إفراطها بالقتل عبر استوديوهات مستمدة من ألعاب الفيديو التي يستمتع بها المراهقون، على عكس النظام الذي يفرم اللحم السوري في الأقبية وبعيدًا عن الأضواء.
ولم يستطع الرقاويون، الموجودون في تركيا بكثافة، التخلص من صدمة داعش، ولا من تأثيرها، خاصة وأن معظمهم قد لجأ إلى المدن القريبة من الحدود السورية التركية مثل مدينة أورفة، التي عرفت اغتيالات متعددة وتهديدات مباشرة ضد من يحاول القيام بأعمال استقطاب وتجمع عسكري أو مدني ضدها، بما فيها محاولة اختطاف قائد لواء ثوار الرقة في تشرين الأول 2014.
وظل الكثير من أهالي الرقة معتدّين ببناهم العشائرية، التي أثبتت فشلها الذريع بحماية المدينة وأهلها، وفشلوا بإقامة أي تجمع ذي أبعاد سياسية أو عسكرية مؤثرة، مثل تجمع قوات النخبة التي بنتها قبائل الحسكة بقيادة أحمد الجربا، والتي استطاعت انتزاع القبول بها من قبل الأمريكيين، فيما لم يستطع الجيش الحر في الرقة من بلورة مثل هذا التجمع السياسي العسكري، وصار أهل الرقة المؤيدون لهذه القوات المتحالفة، مجرد تابعين ثانويين في كل التجمعات التي انضموا إليها سواء في قوات النخبة، أو ضمن قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية، أو قوات درع الفرات المدعومة من الأتراك.
تجربة منبج التي تحررت من داعش بفضل صفقة بين أبناء منبج في داعش وفي القوات المهاجمة، جنبت المدينة المزيد من الدمار، ولعلها تلهم أبناء الرقة من كافة الأطراف، ليكونوا قادرين على عقد مثل هذه الصفقة التي تجنّب الأهالي المجازر والدمار المرتقب ضد المدينة وأهلها، خاصةً وأن الأنباء المتواردة من قبل أكثر من جهة ترجح انسحاب قادة داعش من الرقة باتجاه البادية السورية، وآخرها تصريحات البنتاغون الأمريكي التي تؤكد ذلك، بعدما صار حصار الرقة أمرًا واقعًا، وقيد الإحكام الذي سينتهي حتمًا بتحريرها وطرد داعش، أو إزاحتها إلى أماكن أخرى حسب مشيئة القوى الدولية التي تستثمر في داعش، وعلى رأسها إيران حليفة القاعدة ووليدها داعش الذي يخدم هلالها الطائفي.
هذا الدمار الزاحف باتجاه الرقة، يتطلب من أهلها العمل على بناء تحالفات، مع أبناء المدن السورية الأخرى حتى ولو كانت متأخرة، وخاصة من دير الزور والحسكة وريف حلب، وعقد صفقات سياسية واجتماعية تجنب المدينة دمارًا شاملًا، وقد يتبع الدمار الإلحاق بمشاريع انفصالية، عن الدولة السورية الأم، وتحويل المحافظة إلى جزء من حروب إقليمية ضد تركيا أو غيرها، وهذا ما يتوارد عبر تسريبات من داخل الرقة في أماكن متعددة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتخوف الناس الانتقال من الإجبار على لبس الزي الأفغاني، إلى الإجبار على رفع صور عبد الله أوجلان، أو صور بشار الأسد في المرحلة المقبلة، وهذا ما يتطلب عملًا سياسيًا ووطنيًا حقيقيًا، يجنب المدينة المزيد من الانحدارات، ويعيد للرقة روحها المنفتحة والمتسامحة التي يعرفها السوريون جميعًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :