من دمشق: هنا أسبارطة!

  • 2013/11/03
  • 3:19 م

عفراء جلبي – معتز مراد

هذه لحظة تبدو من نسج الخيال التاريخي. فنحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهذه دمشق، أقدم عاصمة في التاريخ، تحت الحصار. لكن بنظرة أبعد نجد أننا ما زلنا حبيسي منظومة القوة والهيمنة العسكرية. فكم كان مخجلًا غزو صدام للكويت أو التدخل السوري السافر في لبنان. وها هي إيران حاليًا ما تزال تعيش قيود الماضي ووهم السيطرة الإقليمية. فمحاولاتها الحاليّة تعيد إلى الأذهان حروب فارس القديمة. فبعد ستٍ وعشرين قرنًا من زمن الحروب الميدية، يعيد الفرس تكرار أنفسهم. ولكن هذه المرة ليس في بلاد الإغريق، بل في بلاد السريانية، في دمشق عروس الحضارات، وفي حلب وحمص والغوطة الشرقية، في جوبر وبرزة وداريا.

 عندما بدأت الثورة السورية برز فيها نشاط مدني مذهل، وكانت الاحتجاجات في الساحات تأخذ بألباب المتابعين. وأفرز الحراك الثوري أسماءً شبابية عَرف العالم رُقيّها وبُعدها عن الصفات التي مافتئ النظام السوري ينعت الثورة والثوار بها؛ من إرهابيين ومندسين وعملاء للخارج ومتطرفين وقاعدة. اليوم داريا مدينة أنقاض بعد أن هجرها سكانها الذين كانوا يبلغون أكثر من مائتي ألف نسمة، واستشهد فيها أكثر من ألفي داراني، ويوجد أكثر من 1700 معتقل من النشطاء المدنيين والسكان المحليين في السجون. كان على رأس الناشطين غياث مطر ويحيى ونبيل شربجي وإسلام دباس في داريا، ومشعل تمّو ورزان زيتونة وياسين الحاج صالح وأنس الشغري وغيرهم. وقبل أيام نشرت منظمة هيومان رايتس واتش في نيويورك تقريرًا عن عشرات آلاف المعتقلين السوريين الذين يقبعون في السجون الأسدية تحت ظروفٍ شنيعة، وذكر التقرير يحيى وغياث وأنس الشغري. لكن ما يكمن وراء الحقائق والأرقام في مثل هذه التقارير هي القصص التي تتراكم عبر السنين وتحرّك التاريخ. فيحيى وغياث «المتأثر به» وبقية الناشطين لم يظهروا فجأة مع الورود من فراغ. بل كان هناك حراك مدني امتد لأكثر من خمس عشرة سنة في داريا، قامت فيه شخصيات ذات تأثير أخلاقي ومعنوي مثل عبد الأكرم السقا (هو معتقل أيضًا) بالتركيز على تفعيل القِيم الدينيّة لإحداث حراك مدني متميّز. كان الحراك يحاول خلق هامش مدني صغير في التغيير الفكري والاجتماعي. ولذا كانت حملات تنظيف وإقامة لقاءات للقراءة والتدارس، وحملات لإيقاف التدخين، انتهت معظمها بالسجن والعقاب.

هذا الحراك والتوق نحو التغيير المدني الثقافي كان يرتكز إلى جيل آخر سبقه قبل أن يختطف الأسد سوريا ويختزل إرادتها الشعبية في شخصه وعائلته في عام 1970م. فما زال الجيل الذي حاول تكوين هوية سورية تعددية «بعد الاستقلال عن فرنسا» يُلهم السوريين. وجيل الثورة هذا يعرف أن أجداده وجداته، أمثال فارس بيك الخوري وماري العجمي والرئيس شكري القوتلي وشكيب أرسلان والعلامة محمد كرد علي وعادلة بيهم والشيخ بهجت البيطار والشيخ عبد الحميد الزهراوي، كانوا قد وضعوا رؤية تعكس طبيعة التشابك الثقافي والديني السوري. ولهذا  آمن السوريون بأن ثورتهم ستحقق أهدافها وتستعيد مشروعها الوطني.

لكنّ صدمة السوريين الحقيقية كانت عندما اكتشفوا أنهم لا يُحاربون الأسد وحده، وإنما إيران وطابورها الخامس المتمثل في حزب الله. ويبدو جليًّا أن النظام المترنّح ما كان ليستمر لولا دعم إيران وتدخلها. ورغم أن روسيا أيضًا تدعم النظام وتواصل إرسال الأسلحة، إلا أنها استفادت من تردد المواقف الأوروبية والأمريكية وتخبطها لترسّخ من جديد صورة عالم القطبين لاستعادة مجدها الباهت. ولكنّ المواجهة الحقيقية هي مع الرغبة الإيرانية في التوسع إقليميًا. وإذا نظرنا إلى خريطة المنطقة يتّضح لنا ما يحدث، فمع ازدياد سيطرة حزب الله في لبنان وحكومة المالكي في العراق، تريد إيران أن تصل النقاط لسطوتها الأفقية. ومن البداية كانت تُصرّح دون خجل أن سوريا من أمنها القومي، وكأنها محافظة إيرانية. وبالتالي فقدت أعظم فرصة تاريخية في إحداث مشروع نهضوي في المنطقة بالاقتراب من هموم المستضعفين.

ولأشباح التاريخ تجليات في الحاضر. فقاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، الذي يقود المعارك بنفسه في غرفة عمليات من دمشق، بات يمثل للسوريين أكبر انتهاك لسيادة بلادهم. ولكنه يُظهر أيضًا عجز جنود بشار الأسد عن الاستمرار بمفردهم في قمع الثورة. ووفق أحد المصادر فإن سليماني قال لأحد الساسة العراقيين: «إنّ الجيش السوري لا طائل منه، أعطني لواءً واحدًا من الباسيج، وسأتمكن من قهر البلاد كلها.» كان يشير للميليشيا الإيرانية، التي سحقت الانتفاضة الشعبية ضد نظام الملالي عام 2009م.

ورغم صمود السوريين لستة أشهر بشكل سلمي في وجه بطش النظام السوري إلا أن الدور الإيراني ساهم بشكل كبير في إبعاد القرار السوري الوطني من الساحة وتحويل ثورة الحرية إلى نزاع إقليمي. فلم تترك إيران الشعب السوري يقرر مصيره سلميًا، ولا حتى عسكريًا بعد ذلك. تمامًا كما فعلت تجاه الثورة الخضراء وقمع الحراك الإيراني، حيث إنها دعمت النظام بنفس أساليبها لاقتلاع وتدمير الحراك المدني السلمي، بالتركيز على اعتقال القيادات المدنية أو الأسماء الملهمة الشبابية التي كانت تحافظ على تماسك هذا الحراك، كما يُظهر تقرير هيومان رايتس واتش والذي صدر في شهر تشرين الأول. وفي المقابل ساهمت روسيا بتدمير البنى التحتية كما فعلت هي أيضًا مع ثورة الشيشان ومسحها لغروزني، كما يقوم النظام بمسح حمص ودير الزور وحلب وضواحي دمشق.

بصراحة؛ أردناها كأثينا ولكن وجدنا أنفسنا في اسبارطة. أردنا أن تكون سوريا مدينة للعلم والحضارة، ولكنّ أحلام فارس القديمة «ولو أنها لبست عباءات دينية» وقفت في وجه شعبٍ أراد أن يرمي عنه براثن الاستبداد. كانت أثينا عاصمة الإغريق والعالم القديم، مدينة العلم والمعرفة، وموطن الفلاسفة العظماء سقراط، أفلاطون وأرسطو. ولكن عندما تقدم الفرس باتجاه اليونان فيما يعرف بالحروب الميدية في القرن الخامس قبل الميلاد اضطرت أثينا للتصدي لهم في الحملة الأولى، فأردفتها فارس بحملة ثانية كادت أن تنتصر فيها لولا أن الاسبارطيين أمّنوا انسحابًا بأقل الخسائر للجيش الأثيني، واستبسل فيها 300 من أشجع قادة أسبارطة العسكريين بقيادة ليونيداس. عاد الفرس على أعقابهم مهزومين بعد عدة معارك. وفي الفيلم الذي يمجّد تلك اللحظة والتي صارت أسطورة عالمية، يقف ليونيداس متحديًّا رسول الفرس الذي يطالبه بتسليم المدينة. ولكنّ ليونداس يقف أمامه بكل حزم ويخاطبه بصوت عالٍ وجهور: «هنا اسبارطة!» ويرميه بعدها في حفرةٍ ليس لها قرار. وفي تكرارٍ تاريخي كان رسول فارس يذكرهم بأنهم يقومون بانتهاك كبير لقتلهم الرسول السابق، دون أن يرى شناعة انتهاك شعبٍ بأكمله وغزوه في أرضه، تمامًا كما نرى تركيز الإعلام العالمي على كل انتهاك يحدث في الثورة، بينما مرات كثيرة يحدث تغافل مقصود عن الانتهاك الممنهج والمتواصل من قبل النظام وحلفائه على الشعب السوري.

أكتب من داريا المحاصرة. فنحن حاليًا نشبه من حيث لم نرد اسبارطة ومحاربيها الثلاثمائة. داريا تحت الحصار منذ أكثر من سنة، وتكاد تكون مسحت من الخريطة. ولكن النظام لم يستطع السيطرة عليها رغم أننا قلائل ولا نملك سلاحًا يوازي ما تواجهنا به إيران وتدعم به روسيا النظام. وفي كل يوم يزداد حصارنا حتى بات يحيط بنا كالسوار، وبتنا نأكل أوراق الشجر. فمنذ أشهر لم نعد نأكل الخبز، حتى أننا نصنّع السيرومات بشكل بدائي لنلبي حاجة الجرحى والمرضى. لقد تحوّل نشطاء الأمس إلى محاربي اليوم. وعلى امتداد الأرض السوريّة تجد هؤلاء الشجعان؛ متظاهروا الأمس في الساحات، يقولون بكل جُرأةٍ وإقدام لهذا المحتل الغازي: هنا داريا! هنا دمشق! هنا سوريا!

ورغم وحشية العمليات العسكرية التي ينفذها النظام، إلاّ أنّ دمشق وريفها لا تزالان خاليتين تقريبًا من المقاتلين الأجانب. وما زلنا نريد حريتنا ورؤيتنا لسوريا وطنًا للسوريين. ولكننا أيضًا نتوق للخروج من متاهات ألعاب القوى ونستعيد مكاننا كإخوة بين شعوب الأرض لبناء عالم أكثر إنسانية. وكما يقول صديقنا عماد العبار أن التاريخ لا يكرر نفسه، وإنما نحن نكرر أنفسنا فيمل التاريخ منا. وهنا فرصة الجميع لنخرج من العالم القديم الممل والمؤلم بكل أوزاره وتكراراته المدمرة، لنتوجه نحو رؤية مصالحنا في المنطقة وحتمية مستقبلنا المشترك. وتذكروا دومًا، هنا دمشق! مهد الحضارة الإنسانية.

مقالات متعلقة

في العمق

المزيد من في العمق