«محيطٌ يمشي خلف بحيرة»
طريف العتيق
«سبحان الله، محيطٌ يمشيّ خلف بحيرة»، هي الكلمة التي صاح بها محي الدين بن عربيّ حينما رأى جلال الدين الروميّ -وكان صغيرًا- يمشي خلف والده.
ولسنا هنا في مقام تناول أحد من هاتين الشخصيتين، لكننا سنستخدم أسلوب موت المؤلف للاستفادة من هذه العبارة في مقالنا هذا.
وموت المؤلف، أسلوب في دراسة وتحليل النصوص الأدبيّة وغيرها، يركّز على القراءة الداخليّة للنصّ، بمعنى قراءته ونقده بعيدًا عن سياقه التاريخيّ والاجتماعيّ، وبعيدًا عن تأثير المؤلف (شخصيته وحياته). بعبارة أخرى، هو أخذ النصّ وكأنّ المؤلف لا علاقه له به، وكأنه لم يقصد من قوله هذا، ما قصده وقتها، وإعطاء معانٍ أخرى لهذا النصّ، لم تكن في بال كاتبه.
فعندما يكون لديك معنىً ما، وتبحث عن عبارة دقيقة تترجم بها معناك هذا، ثمّ تمرّ عليك كلمة لأحد الأدباء، فتتفاجأ أنها تعبّر عن معناك أيّما تعبير، وأيما دقة، إلا أن المؤلف حينما قال هذه الكلمة لم يقصد بها ما تقصد أنت، فهنا ترفض احتكار المؤلف لمقصود النصّ، وتستخدم كلمته للتعبير عن فكرتك.
وهنا إذًا، سنستأذن ابن عربيّ، لنستعير كلمته الرائعة تلك، للتعبير عمّا نريد قوله.. «سبحان الله، محيطٌ يمشيّ خلف بحيرة»، وهي الصورة التي تعبّر بالضبط عن حال القطاعات المثقفة في المجتمع العربيّ في تبعيتها المؤسفة لرموزٍ آحاد، يسلّم لها عقله، وكيانه، وعاطفته، بل وحتى وجوده، ليتبعها كيفما تشاء.
وهنا الحديث ليس عن «المجتمع» ككل، بل عن الطبقات التي يفترض أنها واعية ومثقفة، وتلك طامة حقّة.
البحيرة قد تكون أمير جماعة، عيّن نفسه، أو عيّنه أميرٌ أعلى منه، فهو يعطي أوامره ونواهيه -في كلّ شيء- لمن هم خلفه، فيطبقوا ما يقول، دون نقاش أو اعتراض.
وقد تكون قائد كتيبة، ليس لديه من الدراية والعلم والحنكة ما لدى آحاد مقاتليه، بل إنك لتجد عنده من المجنديّن من هو محيطٌ حقًا، لكن يا للخيبة، تجده يتبع بحيرته تلك.
شيخ مسجد أو آنسة دينيّة، يمكنهما أن يكونا بحيرة أخرى، فلكلامهما وفتاويهما السلطة الأعلى، على حياة من حولهم، ومن يتبعهم من الشباب والرجال والنساء، ليس في أمر الدين فحسب، بل أيضًا فيما يدرسون، ومَن يتزجون، وماذا يشتغلون، ومتى يستيقظون، وفيما يكدحون ويجدّون!
وفي المقابل، يمكن للبحيرة أن تكون مغنيًا، لا يملك حتى ذلك الصوت حقّ الجمال، لكن أفعاله وتصرفاته وأفكاره وما يلبسه وما يأكله والأدوات التي يشتريها، كلّها تعمّم على «محبيّه» و «معجبيه»، وهي التسمية الفنيّة للأتباع والمريدين في الميدان الدينيّ.
ليس هؤلاء فحسب، فحتى المثقفون الكبار، والمفكّرون العظماء، يمكن أن يلعبوا -بقصدٍ أو بدونه- الدور عينه تجاه من حولهم، أو من يبتعهم، إذ تتحول أفكارهم إلى مسلمات، ونظرياتهم إلى فتوحٍ علميّة وفلسفيّة، وهكذا يريد العلمانيون أن يتبعوا نسخةً فرنسيّة، بينما يريد أصحاب الخلافة أن يتبعوا نسخةً مكيّة، دون محاولة الاستقلال والتفكير بالواقع السوريّ وما يحتاجه هو، بعيدًا عن الأفكار الجاهزة.
كثيرًا ما أفشل في شرح هذه الفكرة، فليس المقصود أن يغيّر الإنسان مركز الثقل الذي يتبعه في حياته، من مغنٍ إلى داعيّة، أو من داعيّة إلى مفكّر، أو من ليبراليّ إلى إسلاميّ، بل المقصود: إلغاء فكرة مركز الثقل عينها، أن نتوقف عن أن نكون تبعًا لأحد، وأن نعمل على اتباع ما تراه بصيرتنا بأنّه الصواب، لا سيما في أصول كلّ شيء.
يقول ابن الجوزيّ في صيد الخاطر «إنّه لا يقلّد في الأصول، لا أبو بكر ولا عمر، فهذا أصل يجب البناء عليه، فلا يهولنك ذكر معظم في النفوس».
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :