جودي سلام – عنب بلدي
«اللي ما بينبع بيخلص» مثل شائع ينطبق على حال العديد من التجار الذين كانوا ميسوري الحال وتراجعت تجارتهم أو توقفت نهائيًا إثر الاضطرابات الأمنية في مناطق عملهم. رغم أن هؤلاء يندرجون ضمن المتضررين من التبعات الاقتصادية للثورة السورية، وحال بعضهم تغيرت تمامًا وباتت أسوأ من حال كثيرين آخرين، إلا أن الضوء لم يسلط على معاناتهم التي لم تلق الاهتمام كغيرها من معاناة شرائح المجتمع الأخرى.
أبو أسعد واحد من أغنياء داريا، كان يعمل بتجارة الخشب لكن عمله توقف إثر الحملة الأخيرة على داريا بعد أن كان قد تراجع متأثرًا بالأوضاع الأمنية بالمدينة وما حولها. رفض أبو أسعد السفر خارج سوريا خوفًا من مشقة الغربة وفضّل الإقامة في مزرعة بسيطة يمتلكها على بعد أميال من داريا حيث بإمكانه العمل ليكسب قوت يومه ولا يضطر لإنفاق ما تبقى له من مدخراته التي خسر معظمها حين أحرقت كامل مستودعات الخشب التي يملكها في المدينة.
أبو أسعد الذي اعتاد تسيير تجارته موكلًا المهام لعشرين عاملًا يعملون «تحت يده» تحول وعائلته إلى العمل بأنفسهم بالزراعة، فهم يحرثون الأرض ويزرعون فيها الكوسا والباذنجان والخس والفول.
ينطلق أبو أسعد صباح كل يوم عند السادسة إلى سوق الهال حاملًا منتجات أرضه مارًا بسبع حواجز يفتش كل منها بضاعته بشكل كامل، بعضهم يسرق منها، وآخرون يقومون بشتمه. يصل أبو أسعد إلى سوق الهال منهكًا بعد معاناة طويلة، وغالبًا ما يصل بوقت متأخر فلا يتمكن من بيع كامل بضاعته، ما يضطره للنوم على مقعد سيارته منتظرًا صباح اليوم التالي ليبيع ما تبقى معه، مفضلًا ذلك على العودة إلى مزرعته والمرور بالحواجز السبعة مرة أخرى.
تشتكي أم أسعد التي لم تعتد بذل الجهد تحت الشمس الحارقة من هذا مشقة هذا العمل؛ أما أبو أسعد فلا يزال يجلس وحده مساءًا ويتأمل داريا التي لا تبعد عنه كثيرًا لكن يصعب عليه الوصول إليها، وأحيانًا يتحسر على حاله باكيًا حين يتذكر أنه خسر كل ما جناه طوال حياته بين ليلة وضحاها.
آل حال العائلة التي اعتادت ركوب أفخم السيارات إلى حياة شاقة، فما كانوا يكسبونه بأيام باتوا اليوم يجنونه بعد تعب أشهر.
أبو أسعد ليس الوحيد الذي عانى من هذا الاختلاف الجذري والقاسي في مستوى المعيشة ونمط الحياة، كثيرون آخرون اضطروا للبحث عن أعمال بسيطة كسائقي باصات مدرسة، أو بائعي خبز، أو عاملين لدى أشخاص آخرين.
يشتم أبو أسعد الثورة والثوار والحياة كلها. أما أبو عامر وهو تاجر آخر من داريا خسر بضاعته وأمواله كلها أيضًا، فصب جام غضبه على عامل الإغاثة الذي طرق بابه ليقدم إليه صندوق المعونات، إذ رمقه بنظرات ملؤها الحقد قائلًا «تركت كل ما أملك في دريا لتطرق عليّ الباب وتعطيني هذه الكرتونة.. تبًا لكم ولثورتكم».