مع تفاقم سوء الحالة المعيشية للكثير من العائلات السورية نتيجة الغلاء الفاحش وفقدان المعيل بين معتقل وشهيد ومصاب، اضطرت العديد من العائلات للدفع بأطفالها إلى العمل، ملقين بذلك عليهم مسؤوليات أكبر منهم، ناهيك عن حرمانهم أبسط حقوقهم في معظم الحالات.
عنب بلدي قامت بجولة في إحدى مناطق الريف الدمشقي التي تعج بسكانها الأصليين وأضعافهم من النازحين من مختلف المناطق المحيطة، وتابعت خلال الجولة عددًا من الأطفال العاملين، والتقت بعضًا منهم.
عامر البالغ من العمر عشر سنوات وهو من سكان المدينة، يعمل على «بسطة» يملكها والده في السوق الرئيسي للمدينة؛ يبدأ عمله عند العاشرة صباحًا وينتهي مع انتهاء الحركة في السوق تبعًا للظروف الأمنية ولمواسم الشراء. عامر الذي ادعى بأنه يذهب إلى المدرسة، على عكس ما لاحظناه على مدى أيام، بدا طوال الوقت مترقبًا لنظرات والده الجالس مع بعض أصحاب المحال القريبة؛ فوالد عامر يسارع إلى توبيخه أمام كل من في السوق في حال ابتعد عن «البسطة»، أو انشغل عن أخته ذات الخمسة أعوام التي غالبًا ما ترافقهم إلى العمل، أو تأخر في تلبية الزبائن.
أما مهند فهو نازح من منطقة مجاورة، فضل عدم الإفصاح عنها، بدأ يعمل ببيع الثياب على «بسطة» في السوق الرئيسي أيضًا لمساعدة والده لتأمين مصروف العائلة. اضطر مهند لترك المدرسة العام الماضي إثر النزوح لكنه يود العودة إلى المدرسة. وهو مصمم على متابعة دراسته، فمهند البالغ من العمر 14 عامًا يقول –وقد بانت على وجهه ابتسامة واثقة- أنه ينوي التقدم لامتحانات التعليم الأساسي العام القادم مع الطلاب «الأحرار».
سمية في الصف الخامس وبهاء في الصف الأول أخوان يعملان على بسطة ألعاب وقرطاسية في طرف الحي الذي يقيمون فيه إثر إصابة والدهما في قدمه إذ بات غير قادر على العمل. تقوم والدتهما بتأمين البضاعة اللازمة للبسطة من تجار العاصمة بشكل دوري، وغالبًا بالدَّين، ويقوم الطفلان بالبيع لتأمين مصروف الأسرة المؤلفة من والديهما وأخت أكبر وأخوين أصغر.
يملك الأخوان عربة صغيرة تشبه عربة نقل جرة الغاز، يتناوبان على نقل الأغراض عليها من البيت إلى مكان البسطة وبالعكس كل يوم، فيما «يحرس الآخر البسطة».
خلال النهار تساعد سمية أخاها في دروسه وتنهي واجباتها المدرسية، كما يقومان بتأمين مستلزمات المنزل التي تطلبها والدتهما.
سألنا سمية عما إذا كانا يقتنيان من نفس القرطاسية التي يبيعانها أم أنهما يشتريان من مكان آخر، فأجابت أنهما يهتمان بأغراضهما، ويحتفظان بالقرطاسية من العام الماضي، أما الحقائب فقد حصلا عليها من منظمة اليونيسيف وهما الآن يوفران لشراء ما ينقصهم من دفاتر لها وأقلام لأختها الأكبر في الصف السابع.
محمد بدا الأوفر حظًا بين معظم من التقيناهم، فهو يذهب إلى المدرسة صباحًا، ثم يعود للمنزل ليؤمن الأغراض اللازمة للبيت ويحصل على سندويشة «لبنة أو زعتر.. من الموجود»، وينطلق إلى بسطة الحلويات القريبة لـ «آخد كتف عن أبي»، يدرس محمد مساء في منزله، ويحمل كتبه ليدرس خلال النهار أثناء العمل إذا كان لديه الكثير من الواجبات عند اقتراب موعد الامتحانات.
والد محمد بدا متفهمًا، فهو يدعو أصدقاء ابنه عند مرورهم بجانب البسطة، ويقدم لهم الحلويات، ويسمح لابنه بقضاء بعض الوقت معهم، كما يساعده في دروسه.
ورغم أن البعض قد يظن أن ذلك فرصة لبناء شخصية الطفل إذ سيعتاد على حمل المسؤولية، إلا أن هذا ليس صحيحًا. الأخصائي النفسي هوشيار عثمان أوضح لعنب بلدي أن نمو الطفل بشكل طبيعي يتطلب توازنًا بين عمر الطفل الفعلي (زمنيًا) وبين قدراته العقلية وسلوكه الاجتماعي؛ وأي خلل في هذا التوازن سيؤدي بالضرورة إلى خلل في بناء الشخصية. فإلقاء مسؤوليات أكبر من عمر الطفل سيطور لديه سلوكيات اجتماعية لا تتناسب مع عمره، وبالتالي تفقده براءة وتلقائية ونقاء الطفولة. ويؤكد الأخصائي أن تكوين شخصية الفرد يتم بشكل أساسي في مرحلة الطفولة، لذا فإن حرمانه من أبسط حقوقه في الرعاية واللعب والتعليم والتفاعل مع الأقران وإثقاله بالمسؤوليات سيؤدي إلى اضطرابات سلوكية لاحقًا. وعمالة الطفل في هذا السن ستحرمه جزئيًا أو كليًا من هذه الحقوق، وبالتالي سيطور هذا الطفل سلوكًا عدوانيًا، متسلطًا، وشخصية «فوقية» وميلًا للغرور واستغلال الآخرين، أي تنمي فردًا ناقمًا على المجتمع الذي أهمله في صغره، متمردًا على واقعه و على من حوله بشكل سلبي.
أطفالنا اليوم هم مسؤولية الجميع، فهم المكون الأساسي لسوريا الجديدة، وإن أثبتوا قدرة فائقة على التحمل والتأقلم مع ما مروا به من صدمات، لا يبرر لنا أن نثقلهم بالمزيد من المتاعب التي ستؤثر سلبًا عليهم خلال طفولتهم وفي المراحل القادمة من حياتهم على حد سواء.