مكاتب “بالجملة” تشغّل “مقيمات” سوريّات في منازل دمشق
عنب بلدي – ر. ك
“أم سليم” سيدة دمشقية في عقدها السادس، أُصيبت بجلطة في الشق الأيمن من دماغها عقب تلقيها خبر وفاة ابنها في أحد معتقلات النظام السوري.
شُلّت حركة السيدة وأصبحت طريحة الفراش، ولأسباب أمنية غادرت ابنتها الوحيدة خارج البلاد، لتتناوب قريباتها على خدمتها ومساعدتها في المأكل والمشرب وقضاء الحاجات.
“أعمل على خدمتها وأنا سعيدة بذلك، لأني أقوم بواجبي”، هكذا قالت إحدى قريبات الحاجة “أم سليم” لعنب بلدي، وفضلت عدم ذكر اسمها. إلا أنه بسبب مشقة الحياة في دمشق وظروفها التي “أهلكت الصغار والكبار”، لم تستطع قريبة “أم سليم” التفرغ بالكامل لخدمتها، كونها مسؤولة عن عائلة من خمسة أشخاص، ولحاجة أم سليم إلى مقيمة دائمة بجانبها، خاصةً في الليل.
مكاتب لتأمين عاملات منزليات.. والأجور “خيالية”
قرر زوج السيدة المُقعدة استقدام “مُعينة” لزوجته في حاجاتها اليومية، على أن تقيم معها في نفس المنزل.
وبعد بحث “مطوّل” عن سوريات “أمينات” ورفض معظمهن الإقامة الدائمة، قرأ أحد أولاد “أم سليم” خبرًا في جريدة “الدليل”، الخاصة بالخدمات الإعلانية، عن مكتب تأمين عاملات سوريات مقيمات.
وبحسب ما ذكرت السيدة، اتصلوا بالمكتب الذي طلب أجورًا “خيالية”، مقابل عقدٍ قيل لهم إنه “نظامي”، ويضمن حقوقهم قبل حقوق “العاملة”.
وبناءً على ذلك، طلب المكتب تأمينًا بقيمة 300 ألف ليرة سورية (ما يعادل 600 دولار أمريكي)، على أن يُدفع للمكتب كل عام في حال بقيت العاملة معهم.
أما عن العاملة، فطلب المكتب راتبًا شهريًا يتراوح بين 80 إلى 100 ألف ليرة سورية، (أي ما يعادل 200 دولار تقريبًا).
وهي مبالغ “كبيرة” نسبيًا على عائلة متوسط دخلها الشهري 100 ألف ليرة سورية، وتتحمل أعباء ارتفاع الأسعار الذي تشهده العاصمة دمشق، والتي تبدلت فيها أولويات العائلة السورية.
ومتوسط دخل الموظفين السوريين في الدولة حاليًا، هو 35 ألف ليرة سورية، لكنّه لا يكفي في ظلّ التضخم الكبير وتدهور الليرة السورية.
إعلانات في الجرائد.. ما هي الشروط؟
رصدت عنب بلدي إعلانات في جريدة “الدليل”، عن مكاتب لتأمين عاملات سوريات، مثل مكتب “الأمان” و”الولاء” و”فوريو” للخدمات المنزلية، وغيرها.
وكانت هذه المكاتب متخصصةً بتشغيل العاملات الآسيويات، قبل الثورة في 2011، لكنّ أعدادهنّ بدأت بالتناقص بسبب الأوضاع الأمنية في سوريا، وتراجع الرغبة بالقدوم إلى سوريا.
وتكلم معدّ التقرير مع أحد هذه المكاتب، بصفة زبون، مستفسرًا عن الأجور، فطلب المكتب تأمينًا سنويًا بمبلغ 450 ألف ليرة سورية.
وقدّم صاحب المكتب عرضًا، في حال إمضاء عقد لمدة سنتين، بمبلغ 700 ألف ليرة، فيما طلب راتبًا شهريًا للمقيمة قدره 80 ألف ليرة في السنة الأولى، و90 ألف في السنة الثانية.
وقال صاحب المكتب إن “هذه العقود نظامية مئة في المئة، وتتضمن شروطًا نعرضها على الزبائن قبل إمضاء العقد”.
وحصلت عنب بلدي على نسخة من هذه العقود، تتضمن إمكانية فسخ العقد خلال شهر من إمضائه، كمدة تجريبية، في حال لم تتفاهم العائلة مع العاملة.
وتُستبدل العاملة بأخرى، دون إمكانية استرداد أي مبلغ مالي مدفوع للمكتب.
كما يشترط العقد عدم تشغيل العاملة بأمور غير المتفق عليها مسبقًا مع المكتب، فلا يمكن للعاملة المتخصصة بالعناية بكبار السن، أن تقوم بالأمور المنزلية، والعكس صحيح.
ومن بنود العقد، عدم التعرض للعاملة وإيذائها جسديًا أو لفظيًا لأي سبب كان، ويترتب على ذلك فسخ العقد وخسارة الطرف الثاني ماليًا.
وأخلى المكتب مسؤوليته عن أي عملية سرقة تقوم بها العاملة، محذرًا العائلات من ضرورة إخفاء مقتنياتهم.
أما في حال عدم التزام العاملة بالمدة المحددة للخدمة، فيدفع المكتب تعويضًا للطرف الثاني، عبارة عن تأمين محسوم من راتب العاملة الشهري.
عاملات يتحدين “الأزمة”
وعند السؤال عن جنسية العاملات المقيمات، قال صاحب المكتب، إن معظمهن نازحات من مختلف المحافظات السورية، ويواجهن أوضاعًا صعبة بحكم “الأزمة السورية”.
وأشار إلى أن أعمارهن تتراوح بين 20 و50 عامًا، حسب العائلة والحالة المطلوبة.
ففي حال خدمة كبار السن والمرضى، يُرسل المكتب نساء بعمر الأربعين وما فوق، أما في حال القيام بالخدمات المنزلية والطبخ، فتتراوح الأعمار بين 20 إلى 40 عامًا.
وتوفر بعض المكاتب نظام الخدمة بالساعات، إذ تُرسل عاملات إلى المنازل كفترة عمل أقصاها سبع ساعات في اليوم، في أيام تحددها العائلة بحسب الحاجة.
وتتراوح رواتب العاملة من تسعة آلاف شهريًا في حال عملت يومًا واحدًا في الأسبوع، إلى 45 ألفًا في حال العمل ستة أيام أسبوعيًا.
مهن لم تعرفها السوريات من قبل
هاجر عدد كبير من الشباب السوريين خوفًا من الخدمة الإلزامية (الاحتياط)، وفقد آخرون بحكم الاعتقال، وغيرهم غيبتهم الحرب عن الحياة، لتجد الفتاة السورية نفسها معيلة وحيدة لأبويها وأخواتها أو أولادها.
وكسرت السوريات الأعراف التي ألزمهن المجتمع بها عبر عقود، وامتهنّ أشغالًا جعلتهن عرضة لانتقادات المجتمع، على الرغم من أنها مباحة في أكثر دول العالم تحضرًا، ولم يخرجن بها عن الأخلاقيات العامة.
تحدثت عنب بلدي إلى سلام (30 عامًا)، من سكان حي الميدان الدمشقي، أشارت إلى دخول الفتيات بمهن جديدة “لم نعتد” على رؤيتهن بها.
وقالت سلام إن محلًا لبيع المثلجات والحلويات، بجوار منزلها، وظّف فتيات بدلًا عن الشباب الذين هاجروا بعد إبلاغهم عن الالتحاق بالخدمة العسكرية.
وقالت سلام “بعد حملة الاحتياط المكثفة في نهاية عام 2015، والإعلان عن تشكيل الفيلق الخامس، أصبحنا نفتقد لوجود الشباب في الوظائف العامة”.
وأضافت سلام أن أكثر الوظائف الجديدة للفتيات، والتي استغربها المجتمع الدمشقي “المحافظ” هي، العمل في المقاهي كنادلات، والبيع في أفران الخبز والسوبر ماركت.
وكان القاضي الشرعي الأول في دمشق، محمود معراوي، صرّح في كانون الثاني الماضي، أن “عمل النساء في المقاهي، لا يليق بالمجتمع السوري، باعتبار أنها غير محببة في مجتمعنا”.
أثار هذا التصريح غضب كثير من المواطنين وخاصة النساء، واعتبروه إهانة “صريحة” للمرأة وعملها، خاصة وأنها تساعد أسرتها في ظل غلاء المواد الأساسية والخدمات.
وبذلك سلطت ظروف المعيشة السيئة في سوريا، الضوء على قضية “رفض المجتمع لعمل المرأة”، وبالرغم من اجتياز، نسبة ليست بقليلة من السوريات، مرحلة التعليم الجامعي، وتمتعهن بمهارات مهنية وكفاءات عالية، إلا أن الواحدة منهن لم تكن تعمل بسبب معارضة زوجها أو محيطها الاجتماعي لهذه الفكرة.
اليوم بات مُتاحًا استثمار طاقات المرأة بسبب ظروف المعيشة، وتغاضي الأهل مقابل ما يواجههم من صعوبات، ولكن هل أصبح عمل المرأة في المجتمع السوري ميزة جديدة، أم أنه مجرد ظرف أجبرها على تحمل مسؤولية لم تكن على عاتقها من قبل، وأجبرها على العمل في نطاقاتٍ لا تريد الانخراط بها؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :