إبراهيم العلوش
في بلدة صيدنايا شمال دمشق، وعلى مقربة من أكبر تمثال للسيد المسيح في الشرق الأوسط، تم تعذيب وإعدام أكثر من ثلاثة عشر ألف معتقل سوري بين عامي 2011 و2015، حسب منظمة العفو الدولية بتقريرها الصادر في 7 شباط 2017.
وتؤكد المنظمة أن التعذيب والقتل مايزالان مستمرين إلى اليوم في ذلك الثقب الأسود الذي يطحن شباب سوريا، من مختلف الأطياف السورية المتعلمة، والمهنية المؤهلة، والشجاعة، والمصرة على طلب الحرية والخلاص من نظام الاستبداد.
الروس الذين صمموا نظام التعذيب في سوريا، أيام الاتحاد السوفياتي الصديق، وزودوه بقواعد وآليات الإخضاع وهدر كرامة المعتقلين، اعتبروا أن هذا التقرير الدولي يثير الضغينة بين أفراد الشعب السوري، وكأنما البراميل المتفجرة التي يرسمون للنظام تصاميمها وتوزيعها، تنشر المحبة والسلام بين أفراد الشعب السوري!
شريف شحادة، الناطق غير الرسمي باسم النظام، قال لـ”بي بي سي” العربية في اليوم التالي لنشر التقرير، إن هذا الكلام غير صحيح، وإننا دولة لديها محاكم وقوانين، وإنه لا يصدق مثل هذه التقارير، ومنظمة العفو الدولية قالت في تقريرها إن نهاية عمليات التعذيب تُختتم بمحاكمة في القابون مدتها دقيقة ونصف مليئة بالشتائم، ويكون المعتقلون قد نقلوا إلى المحكمة مع جثث الإعدامات المنفذة في الليلة السابقة لذهابهم إلى المحكمة، التي يصرّ شريف شحادة أنها موجودة.. حقًا إنها موجودة!
وزارة العدل في حكومة المافيا الأسدية، نفت وجود مثل هذه الممارسات كليًا، وإمعانًا في الإنكار قامت أجهزتها بإعادة تمثال حافظ الأسد، مؤسس هذا المعتقل، إلى إحدى الساحات العامة في مدينة حماة التي تم تدمير أجزاء كبيرة منها في الثمانينيات، وقال رأس النظام لموقع “ياهو الإخباري” إن هذا التقرير مزيّف، وهذه الصور مصنّعة بالفوتوشوب.
رغم أن أهالي المعتقلين يدفعون مبلغًا يصل إلى خمسة آلاف دولار، لاستلام هوية ابنهم الشهيد ليتأكدوا من مصيره، ناهيك عن أن المتاجرة بالمعتقلين وتسريب أخبارهم صارت مصدر ثراء لسماسرة النظام، وهذا ما لم يذكره تقرير منظمة العفو الدولية.
سياسة الإنكار هذه راسخة في عقيدة المافيا الأسدية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، حين اعتقلت ما يقارب 100 ألف من شباب سوريا، وقد اختفى منهم إلى اليوم حوالي 17 ألف معتقل، حسب المنظمات والتقارير الدولية، ناهيك عن تدمير نفسيات المعتقلين، وتمريغ كراماتهم، وتلويث حياة أهلهم وأطفالهم بسرطان التعذيب، والحرمان الذي يقترب من الخيال كما يقول المعتقلون، وقد ذكر أحد المعتقلين في التقرير: كنا نتمنى الموت، ونشعر بالحسد تجاه المعتقلين الذين كنا نراهم يساقون إلى غرف الإعدامات، فقد تخلصوا من التعذيب، والحرمان الذي يصل إلى القتل المجاني وقطع المياه لمدة قد تصل إلى تسعة أيام متواصلة، ما اضطر الكثير منهم لشرب بولهم لئلا يموتوا من العطش.
يرصد التقرير الإعدامات منذ بداية الثورة السورية في عام 2011 حتى نهاية عام 2015، ويذكر أن عمليات الإعدام تتضاعف قبيل إصدار المراسيم التي قد تتضمن العفو عن بعض المعتقلين. ولا يعرّج على الممارسات التي قام بها النظام في مواقع أخرى غير صيدنايا، والتي يتم تقديرها بالعشرات، إن لم يكن بالمئات من أماكن الإعدام والتعذيب، والتي توسعت مع اندلاع الثورة السورية، لتصل إلى الشوارع والحارات على الحواجز، حيث يتم تعذيب الناس وإهانتهم علنًا وترهيبهم بمختلف الطرق التي تنتهك كرامات شعب سوريا، وتدفعه إلى إخلاء البلاد للمستوطنين الإيرانيين المنهمكين بهندسة طائفية علنية لا تخفيها الدولة الإيرانية نفسها وعلى أعلى المستويات.
منذ الثمانينيات ورطت مافيا عائلة الأسد الكثير من العلويين وجعلتهم واجهة لممارساتها الإرهابية، إذ يورد التقرير في الصفحة 21 طريقة سَوق المعتقلين إلى غرف الإعدامات، على لسان أحد الحراس السابقين في المعتقل، وذلك بعد أن يتم اخبارهم بالعفو عنهم والتجمع لنقلهم إلى السجون المدنية:
“… وتشهد الزنزانة الكثير الكثير من الضرب، ويصار إلى نزع الثياب عنهم، وإعطائهم زيًا موحدًا أزرق اللون… وكنت أقف عند باب المبنى الأحمر بينما يقتاد المحتجزون إلى السيارة، وكنت في البداية أرافقهم إلى المبنى الأبيض، ولكن أصبح الأمر يقتصر لاحقًا على الحراس العلويين فقط. ولم أعد أقم بذلك الدور في آخر أيامي في صيدنايا لأنني سني، وخشية أن أخبر السجناء بما ينتظرهم فتثور أعمال شغب في السجن”.
عبر هذا الثقب الأسود الذي تم تأسيسه في صيدنايا أيام الأسد الأب، تم تخريج آلاف الإرهابيين وتصديرهم الى العراق ولبنان وغيرهما، ومع بداية الثورة صار تصدير الإرهاب سياسة رسمية للحكومة الأسدية ضد الشعب السوري نفسه، فبعد إعلان رأس النظام عن إطلاق سراح ستين ألف سجين جنائي ليعيثوا فسادًا، قرر النظام إطلاق عقاربه الإرهابية التي كان يصدّرها إلى الخارج، وكان قادة داعش والنصرة من أبرز خريجي هذا المعتقل الوحشي، إذ انطلقوا ليمارسوا الإرهاب ضد الشعب السوري والعمل على تكفيره، ومحاربة ثورة الحرية، ومنع مقاتلة النظام بحجة أن الشعب السوري مرتد وكافر، ويجب إصلاحه في معاقل أنشأها هؤلاء الإرهابيون على شاكلة سجن صيدنايا، وسجون عراق صدام حسين التي كان يديرها الضباط السابقون في مخابرات نظام البعث العراقي، والذين لا يقلون وحشية عن ضباط مخابرات المافيا الأسدية.
يؤكد التقرير على أهمية إحالة مسؤولي النظام المتورطين بجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكم الدولية ومحاسبتهم، بمن فيهم رأس النظام الذي تقع الإدانة المباشرة عليه، حتى وإن كان يوكل تصديق أحكام الإعدام التعسفية لغيره من المسؤولين، فالمسؤولية الأولى تقع عليه ويجب محاكمته لأن الدستور يشترط تصديق رأس النظام على أحكام الإعدام، وعلى الدول الراعية للنظام مثل روسيا وإيران، والتي يقوم النظام بأعماله الوحشية بمعرفتهما، وتحت إشرافهما، أن يوقفا هذه الجرائم ضد الإنسانية حالًا.
المسيح ينظر من فوق تلة تمثاله العالية، قرب سيدة صيدنايا، إلى المعذبين السوريين، وتدمع عيون رسول المحبة والسلام وهو يشاهد أمام عينيه عمليات الصلب والشبح والضرب حتى الموت، والعالم يختار بشار الأسد كحليف لمحاربة الإرهاب الذي تنتجه مؤسساته القمعية، والروس يصرّون على تبني بشار الأسد كضامن لمصالحهم، والإيرانيون يعتبرون بشار الأسد خشبة الأمان لحماية مشروعهم الطائفي.
أما السوريون الذين دفعوا الغالي والرخيص، وهُجِّروا من بيوتهم، ومات أبناؤهم تحت التعذيب، ودُمّرت بيوتهم تحت القصف، فلن يصغوا لهذا العالم المتوحش، شريك النظام في تجاهلهم الذي يصل إلى نفي وجودهم بالكامل، ولن يقبلوا باستمرار مصانع الرعب والإرهاب الأسدية، وستكون إحالة المتورطين بهذه الجرائم إلى المحاكم الدولية والوطنية من أهم المطالب والشروط، وحتمًا ستكون أولى إجراءات الدولة السورية الجديدة مهما تأخر قيامها.