عنب بلدي – العدد 88 – الأحد 27/10/2013
كتبت آلاف من الكتب والمقالات حول تاريخ ومفهوم الحب، انتروبولوجيون ومؤرخون وسيكولوجيون وفلاسفة وباحثون من هنا وهناك، كلهم انشغلوا بهذا الموضوع، ومنهم سبنسر، وستر مارك، فرويد، مولر لاير، فان دي فيلد، وكثيرون غيرهم، ونحن نثمن غاليًا فضائل هؤلاء، ولكن قيمة بحثهم آذاها مفهومهم عن الحب، فالحب مغاير للجنس تمامًا، فهاهم يريدون حصر الأنثى ضمن أبجدية الجنس والجنس فقط، متجاهلين أن الحب الصادق «لا يعرف الحصرا».
سمر (ابنة الثلاثين ربيعًا)، يمر عامها الثاني وهي تنتظر الإفراج عن زوجها المعتقل، فهاهي بين الصديق القادم المطمئنّ على صبرها، وبين الأخ الغادي المهنئ لاحتسابها، وبين أناس يتفنون في فتق جروح قلبها، مؤنبين لها على انتظارها للمحال، ناصحين إياها بترك زوجها المعتقل وبدء حياة جديدة، مابين خائفة على جمالها أن يفنى دونما أن يستغله رجل، ونائحة على حظها العاثر، وأخرى ساخطة على قرارها في الانتظار، وآخر يمارس سطوته العائلية عليها ليبثها محاضرات في عدم جدوى الانتظار.
عامان يمران ولا تدري (أمل) أخيرًا أريد بزوجها، أم أراد به رجال السلطة شرًّا، وما شرًّا فعل سوى أن رسم لطلابه في المدرسة وبطباشير الدراسة ميزانًا بكفتين الأولى ترمز للحكومة ونظامها، والثانية ترمز للشعب المقهور، وجعل العدل والأمان الكفيل للمساواة بين الكفتين. فإذا به زنديق كفر بمبادئهم، لا يفقه من الفكر الديكتاتوري شيئًا، ولا بد أن يكون السجن مآله.
تمر الأيام و(أمل) متمسكة بأمل عودة زوجها، غير آبهة بما تسمع من كلام، وبما يبثها ذويها ومعارفها من أوهام عن مفهومهم الجسدي للحب، في محاولات شبه يائسة منها لإيضاح المفهوم الحقيقي للحب الصادق المقترن مع الوفاء، وبأنه أسمى من أن تحده علاقة جسدية، أو أن يختصر بعلاقة جنسية لا تتجاوز دقائق تنتهي بانتهاء شحنة حب عارمة –أرادها سي السيد- وانتهت.
(أمل) تحدثنا عما يجري معها في المؤسسات الحكومية كلما ذهبت لتسأل عن زوجها، فمرة في (القضاء العسكري-المزة) يهزأ العقيد منها ويستمر في الضحك قائلًا لها «يا مخلوقة الوحدة بأيام السلم ما بتسأل عن زوجها، فكيف بأيام الحرب، انسيه وشوفي مستقبلك»، ومرة في (الشرطة العسكرية-القابون) يهددها الضابط المسؤول عن سجلات المعتقلين، إن استمرت في السؤال عن زوجها سيأخذونها إليه بتهمة أنها توافقه أفكاره الإرهابية. وعلى أحد الحواجز في طريقها إلى الشرطة العسكرية لتسأل عن زوجها إن تم نقله إلى صيدنايا، يقوم عنصر الأمن بإنزالها من السرفيس، ويطلب منها هويتها الشخصية وطلب الزيارة إلى سجن صيدنايا، ويسألها عن جرم زوجها، ويضحك كثيرًا عندما يعرف أنه تم اعتقاله ضمن هذه الأحداث، فيأخذها إلى الضابط المشرف، ليستعرض «المعلم» أمامها ما تبقى من رجولته، محاولًا نصحها بترك زوجها، وسيتدبر هو بكل ما تحتاجه، ويحمد الله أنها لم تنجب من ذاك الإرهابي الذي سيقضي بقية سني حياته في السجون –كما يزعم-، وبدأ يعرض عليها خدماته من تأمين وظيفة لها –بقربه- رغم أنه عادة لا يوظّف إناث بهذا المجال –بس من شان عيونها الحلوين- ومع الوظيفة سيارة وبيت وراتب ثابت –وإكراميات من هنا وهناك حسب حجم متاجرتها بأنوثتها-، وكل ذلك مقابل أن تترك زوجها، وأن تعي أن الحب أكبر مما تتوقعه هي –طالما أن جسدها ما زال ينبض بالأنوثة-، فها هي (أمل) تتنقل بين الأفرع الأمنية، ما بين تهديد من أحدهم، وطمأنة آخر انجذب إلى أنوثتها.
ما حدثتنا به (أمل) هو جزء مما يعصف بأيامها بعيدًا عن زوجها المعتقل، متمسكة بآخر ذرة أمل بانتظار عودته، وقلبها يعتصر ألمًا محاولة أن تعي مفهوم المستقبل الذي يحاول من حولها تجميله أمام ناظريها إن تخلت عنه..