في الوقت الذي يطرح فيه البعض أطروحات التقسيم والبناء اعتمادًا على الواقع الراهن، من مخاوف الأقليات، والواقع العسكري المتشظي، والتجزئة الجغرافية، وإنشاء القواعد العسكرية، تبدو أنها واقعية من حيث توافرها، تتناقض مصالح القوى والدول الإقليمية المؤثرة في سوريا تجاهها، فبينما تلقى دعمًا من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، تلقى في الوقت ذاته رفضًا من تركيا وإيران.
هاني الحاج أحمد
يسيطر على الساحة السياسية والميدانية السورية مشروعان، يتم الترويج لهما والعمل عليهما من قبل أطراف محلية وإقليمية مؤثرة.
مشروع “سوريا المفيدة”
طرح بشار الأسد في خطاب له مفهوم “سوريا المفيدة”، والتي تشمل دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس، تمهيدًا لتقسيم سوريا إلى مناطق “مفيدة” وأخرى “غير مفيدة”، ولتحقيق هذا المشروع عمل النظام على اتباع سياسة ممنهجة في القصف والتدمير والحصار، للمناطق الخارجة عن سيطرته، والواقعة ضمن نطاق “سوريا المفيدة”، كي يجبر سكانها على التهجير واستبدالهم بسكان آخرين في عملية تغيير ديموغرافي خطرة.
بدأت الحرب في سوريا انتفاضة شعبية ضد نظام حكم استبدادي كان سائدًا في البلاد مدة أربعة عقود، لكن سرعان ما تحولت إلى حرب معقّدة ومتشابكة، تتداخل فيها جميع خيوط المكونات السورية، سواء كانت طائفية أو مذهبية أو قومية، الأمر الذي أدى إلى ظهور مشاريع التقسيم التي كانت قائمة إبّان الاحتلال الفرنسي لسوريا.
حينها أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو، بعد معركة ميسلون، تقسيم سوريا إلى ست دويلات: دولة حلب عام 1920 وتشمل حلب ودير الزور والرقة، دولة جبل العلويين عام 1920 وتشمل اللاذقية وطرطوس وأجزاء من حماة وحمص وجسر الشغور، ودولة جبل الدروز 1921 وتشمل السويداء، وأُريد لهذه الدول أن تكون مستقلة تمامًا، لكل منها علم وعاصمة وحكومة وبرلمان خاص بها، إلا أن ذلك المشرع لم يكتب له النجاح. واليوم تعيد بعض القوى طرح نفس المشروع، إما كحل للصراع في سوريا ،أو لترسيخ الواقع الراهن، أو لتحقيق مصالح خاصة، وهنا تكمن أهمية مناقشة مشاريع التقسيم المطروحة ومواقف الدول منها. |
وهو ما حصل في حمص بين عامي 2011 و2014، إذ قدر عدد سكانها قبل عام 2011 بقرابة 1.5 مليون نسمة، منهم 800 ألف نسمة في مدينة حمص وحدها، لكن التقديرات تشير إلى أن عددهم عام 2016 لم يعد يتجاوز 200 ألف نسمة، بحسب دراسة أصدرها مركز “حرمون” للدراسات في أيلول من العام الفائت، أي أنه تم تهجير مئات الآلاف بفعل القصف المستمر والمجازر والحصار.
وفي ذات العام هجّر من تبقى من سكان داريا ومعضمية الشام ونقلوا إلى إدلب، عدا عن تهجير آلاف الأهالي من مدن وبلدات أخرى بريف دمشق إلى الشمال، وهو ما قد يطال سكان حي الوعر في حمص، وبلدات الزبداني ومضايا وبقين شمال غرب دمشق، وبلدات الجنوب الدمشقي.
وتصب هذه العمليات في صالح التقسيم، وذلك لتأمين دمشق ومحيطها وتحييدها، باعتبارها أحد أعمدة “سوريا المفيدة”.
مشروع “الفيدرالية الكردية”
أعلن حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي (PYD) مطلع العام 2014 عن مشروع “الإدارة الذاتية” في المناطق ذات الغالبية الكردية، وتشمل المقاطعات الثلاث: الجزيرة، وكوباني (عين العرب)، وعفرين، وتبع الإعلان لاحقًا، في 17 آذار 2016، اجتماع رميلان في محافظة الحسكة، حيث اتفقت فيه فصائل كردية على السعي من أجل إقامة نظام فيدرالي شمال سوريا خلال فترة محددة، تمهيدًا للوصول إلى دولة “غرب كردستان” (روج آفا)، والوصول لاحقًا إلى دولة “كردستان الكبرى”، وبالتالي تقسيم سوريا.
وتجلى ذلك بشكل واضح بعد محاولة “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية، وصل مناطق شرق الفرات بغربه، بعد سيطرتها على مدينتي منبج وتل رفعت ومطار منغ العسكري، ومحاولتها السيطرة على مدينة الباب، آخر حلقة في مشروعها في وصل المقاطعات الثلاث ببعضها البعض وتأسيس “الدولة الكردية”.
مقومات تعزز مشاريع التقسيم المطروحة
مخاوف الأقليات
عمل النظام على تفعيل دور الطائفية في حرف الاحتجاجات الشعبية ضده، وقلب المعطيات عن طريق تسريب صور وتسجيلات مصورة لعمليات تعذيب واعتقال وقتل، من قبل مقاتلين من طائفة بحق أبناء طائفة أخرى، وجعل الصراع في سوريا صراعًا هوياتيًا، يتداخل فيه المركّب الجهادي والصراع الإقليمي والدولي.
كما عمل على الاستعانة بالميليشيات الطائفية الأفغانية والعراقية والإيرانية واللبنانية، والتي ساهمت بشكل أو بآخر في الانقسام الاجتماعي، وبالتالي استطاع النظام ربط مصير الأقليات بمصيره وكسبها إلى جانبه، ما جعلها ترى في التقسيم الخيار الأفضل لتخوفها من أعمال انتقامية، سواء على أسس طائفية أو عرقية، وما يرافقها من أعمال تصفية وإبادة في حال نجاح الثورة.
وساعد ظهور جماعات إسلامية وجهادية في تعزيز مخاوف الأقليات من التطرف الديني، وما يرافق ذلك من تضييق وخناق على الأقليات، الأمر الذي دفعها إلى خيار التقسيم.
الواقع العسكري المجزأ
تسيطر القوات الكردية على شمال شرق سوريا وعفرين في شمالها الغربي، بينما تسيطر قوات النظام على دمشق واللاذقية وطرطوس وأجزاء واسعة من حماة وحمص، وتسيطر قوات المعارضة والجماعات الإسلامية على إدلب ومحيط حلب ومناطق واسعة في درعا والقنيطرة وأجزاء من حمص وحماة. أما تنظيم “الدولة الإسلامية” فيسيطر على الرقة ودير الزور وأجزاء من ريف حلب، وبالتالي فإن استحالة الحسم العسكري من قبل جميع الأطراف جعلت التقسيم ممكنًا بحكم الأمر الواقع، والجغرافيا التي يسيطر عليها كل منهم.
إنشاء القواعد العسكرية
أنشات الدول الفاعلة في الملف السوري قواعد عسكرية في مناطق تقسيمات الأمر الواقع، ومنها القاعدة العسكرية الأمريكية في الرميلان بريف الحسكة في تشرين الأول 2015، والقاعدة العسكرية الأمريكية بالقرب من “كوباني” (عين العرب)، وكلتاهما في مناطق سيطرة القوات الكردية، إلى جانب القاعدة العسكرية الروسية في مطار “حميميم” بريف اللاذقية وقاعدة طرطوس البحرية الروسية في مناطق سيطرة النظام السوري.
كذلك أنشأت مراكز عسكرية تركية في ريف حلب الشمالي الشرقي الخاضع لسيطرة المعارضة، عدا عن قاعدة أمريكية- بريطانية في منطقة التنف جنوب شرق سوريا، ومراكز تدريب إيرانية في مناطق النظام بحمص وحماة ودمشق وريف حلب الجنوبي. ووجود هذه القواعد والقوات تعزز أيضًا من فرضية التقسيم وتجعلها ممكنة التحقق.
مواقف الدول من التقسيم
تتباين مواقف الدول الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثرة في سوريا تجاه ملف التقسيم، بين مؤيد ومعارض لهذه الفكرة، وأهمها:
الموقف التركي
ترفض تركيا جملة وتفصيلًا تقسيم سوريا، سواء كان على أسس طائفية أو قومية، وهو ما قاله رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو من طهران، “إن تركيا ترفض أن تقسم سوريا إلى دويلات”، وذلك في لقاء سابق جمعه مع المسؤولين الإيرانيين، وأضاف في تصريح له من مطار أتاتورك في اسطنبول “إن اتفاقية سايكس بيكو قسّمت المنطقة قبل مئة عام، وينبغي ألا نسمح بتقسيم جديد”.
ويعود سبب الرفض التركي إلى مجموعة من العوامل، أبرزها تهديد الأمن القومي التركي، عبر إنشاء كيان كردي على طول حدودها الجنوبية مع سوريا، يهدد وحدتها الداخلية، وينعكس سلبًا على سير العملية السياسية في تركيا، ويشكل سدًا وحاجزًا يفصل تركيا عن المحيط العربي، وممرًا لنقل إمدادات النفط والغاز من شمال العراق وإيران لاحقًا إلى المتوسط، ما يساهم في تراجع موقع تركيا “الجيوستراتيجي”، كونها ملتقى لأنابيب النفط والغاز.
وقد ترجمت تركيا موقفها بتوجيه ضربة “قاصمة” للمشروع الكردي، عبر دعمها وإطلاقها لعملية “درع الفرات” للسيطرة على المنطقة الممتدة من جرابلس شرقًا وحتى اعزاز غربًا، ومدينتي الباب ومنبج جنوبًا، للحيلولة دون وصل المناطق الكردية ببعضها البعض، كوباني (عين العرب) شرقًا وعفرين غربًا.
الموقف الإيراني
تتبنى إيران موقفين متناقضين تجاه مشاريع التقسيم المطروحة، فمن جهة تتفق طهران مع أنقرة في رفضها مشاريع التقسيم، وعبّر عن ذلك الرئيس الإيراني حسن روحاني بقوله “إن إيران تدافع عن وحدة سوريا”، لارتباط ذلك بأمنها القومي ووحدتها الداخلية. إذ سيؤدي دعمها للتقسيم في سوريا إلى تحريك النزعات الانفصالية داخلها، من قبل الكرد في مدينة “ماهاباد” شمال إيران، وإقليم “بلوشستان” في جنوبها الشرقي، وإقليم “الأحواز” غربها، واعتبار سوريا منطقة نفوذ “جيوستراتيجية” تابعة لها، لارتباطها بلبنان و”حزب الله”، إحدى أذرع إيران العسكرية في المنطقة.
ومن جانب آخر، هنالك الموقف الإيراني الذي يقبل بالتقسيم، وذلك بعد استحالة الحسم العسكري من قبل النظام رغم دعم إيران له، الأمر الذي جعل الأخيرة ترى في التقسيم خدمة لمصالحها، بحيث تضمن لنفسها بوابة نفوذ مستقلة داخل سوريا، عبر العلويين والكرد، وربما غيرهم، وذلك بشرط ارتباط بقاء جغرافي بينها (دولة العلويين) وبين “حزب الله” في لبنان، عبر حمص والعراق، لتأمين إمدادات النفط والغاز الإيراني إلى أوروبا، عبر مشروع “خط الغاز الإسلامي”، وتشكيل حديقة خلفية لدعم “حزب الله”.
الموقف الروسي
ترى روسيا أن استعادة الأسد سيطرته على كافة الأراضي السورية أمر غير ممكن، وأن الحل الأفضل هو الفيدرالية، وجاء ذلك على لسان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف في نهاية شباط 2016، قائلًا إنه “من الممكن أن تصبح سوريا دولة فيدرالية “.
وعزز هذا التحول، في الموقف الروسي، حادثة إسقاط الطائرة العسكرية الروسية من قبل تركيا في تشرين الثاني 2015، ورغبة موسكو في معاقبة أنقرة على فعلتها، عبر دعم القوات الكردية المتمثلة بـ “قوات سوريا الديمقراطية”، وتأمين غطاء جوي لها في ريف حلب الشمالي، ما أسهم في خروجها من عزلتها وهجومها على مناطق سيطرة قوات المعارضة المدعومة تركيا، وتهديدها للأمن القومي التركي، بالإضافة إلى إنشائها قاعدة عسكرية في مطار حميميم في اللاذقية، ودعمها للنظام عبر القصف الجوي للمناطق الخارجة عن سيطرته، والواقعة ضمن نطاق “سوريا المفيدة”.
جميع العوامل السابقة تصب باتجاه التأييد الروسي للتقسيم، بالإضافة إلى رغبة موسكو في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا، باعتبار أن سوريا تشكّل آخر منطقة نفوذ للروس على البحر المتوسط، وستعطي امتيازات التنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري، وتشكل سدًا في وجه مشروع الغاز الإيراني والمشروع القطري في نقل الغاز إلى أوروبا عبر الساحل السوري، فنجاح هذه المشاريع يسهم في إضعاف موقف روسيا أمام الغرب، ويفقدها القدرة على التحكم بعصب الاقتصاد الأوروبي باعتبارها أكبر مصدّر للغاز إلى أوروبا.
الموقف الأمريكي
تتسم السياسة الأمريكية باللجوء إلى اقتراحات التقسيم في مواجهة الأزمات الطائفية التي تنشأ في فترة ما بعد الحروب، في دليل ثابت على فشلها في إعادة الاستقرار إلى هذه المناطق.
فالسياسة الأمريكية تعيد نفسها، ولكن في سوريا هذه المرة، إذ أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في آذار 2016، أنه “ربما يكون من الصعب إبقاء سوريا موحدة، إذا استغرق إنهاء القتال فيها مدة أطول”، وما عزز أيضًا هذا التوجه، تصريح رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، جون برينان، قائلًا “لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سوريا موحدة مرة أخرى”.
وتجلى الموقف الأمريكي على الأرض عبر دعم “قوات سوريا الديمقراطية “، وبناء شراكة معها واعتمادها كقوات برية تابعة للتحالف في حربه ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وإنشاء القواعد العسكرية في مناطق سيطرتها، ومنع استهداف هذه القوات من قبل تركيا أو أي طرف آخر، يقابله أيضًا امتناع أمريكي عن قصف المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، في خطوة تحمل في طياتها تكريس التقسيم.
قد يجعل الواقع العسكري المجزّأ، والقواعد العسكرية الأجنبية، ومسألة الأقليات من خيار التقسيم، ممكنًا من الناحية السياسية، لكنه من الناحية العاطفية أمر مرفوض بشكل قاطع من قبل أغلب السوريين، فالحديث عن دولة علوية في الساحل السوري ودمشق وحماة وحمص، ودولة كردية على طول الحدود السورية التركية، ودولة سنية في باقي المناطق، ممكن من ناحية سياسة الأمر الواقع، أما من الناحية الفعلية فيصعب تحقيق التقسيم، بسبب التداخل الإثني والطائفي في جميع المناطق السورية.
تقسيم سوريا يحتاج إلى قرار إقليمي ودولي متوافق تجاهه، وذلك لإدراك القوى الخارجية مفاعيله الخطرة على سوريا والمنطقة ومحيطها، بالإضافة إلى وجود خطر تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي يسيطر على أجزاء واسعة من سوريا، وتشكيله مصدر تهديد لجميع الكيانات والتشكيلات، لكن ما يجري الآن هو محاولة القوى المتصارعة تعزيز مواقفها في سيطرتها على مناطق جديدة، والاحتفاظ بالقائمة حاليًا لتعزيز موقفها ورصيدها في التسوية السياسية المستقبلية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :