إبراهيم العلوش
تدمير جسريّ الرقة على نهر الفرات بتاريخ 2 شباط 2017، بقنابل طائرات التحالف، يعبّر عن بدء مرحلة جديدة من الدمار لمدينة الرقة، وذلك بعد تدمير الجسر المعلق بدير الزور وعدد من معابرها، ناهيك عن حصار أهالي دير الزور وتدمير أكبر مدن الجزيرة السورية، بالإضافة الى النتائج المدمرة التي أصابت مدن وبلدات وادي الفرات خلال استيلاء داعش عليها.
قبل مئتي سنة كان وادي الفرات شبه خالٍ من السكان، وكانت المجاعات والأوبئة تجتاحه بين سنة وأخرى، ولم يزدهر بناء المدن والبلدات حتى مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين، حيث وفرت الدولة الوطنية مقومات ثورة زراعة القطن، وشجّعت إدخال محركات ضخ المياه (الموتورات) التي غيرت وجه وادي الفرات وسكانه، الذين كانوا يعيشون على شاطئ النهر، ويشكون من الجوع والحرمان والتهميش، وبدأت نهضة الوادي التي تفاعلت مع توقيع جمال عبد الناصر اتفاقية بناء سد الفرات مع الروس واعتباره مشروعًا يوازي مشروع السد العالي في مصر.
منذ نهاية الخمسينيات صارت الجزيرة السورية هدفًا للموظفين وللمعلمين الشباب من كل أرجاء سوريا، وصارت وعاءً للتفاعلات السورية من كل المذاهب والمناطق، فقد ساهم أبناء حلب وحمص، ودمشق وأبناء الساحل السوري، بكل تنوعاتهم المذهبية والطائفية، بإنجاز نهضة تعليمية حقيقية انتشلت أبناء الفرات من براثن الإهمال والتكرار، وانتصرت على الخمول العشائري المزمن.
فالبعد الديني في مناطق الفرات لم يكن ذا أثر كبير، مثل الأبعاد العشائرية والعائلية التي كانت تكبل الشباب والشابات، وتجبر الكثير منهم على تكرار نفس سيرة السلف المستسلم لظروف التهميش!
وطوال ثلاثين عامًا من حكم حافظ الأسد، لم يزر مدينة الرقة، التي تعتبر مركزًا لمحافظة تزيد مساحتها مرة ونصف على مساحة لبنان، ولو لمرة واحدة، رغم أنها تنتج من المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية ما يمكّن سوريا من الأمن الغذائي، بالإضافة إلى البترول وغيره من المنتجات الأخرى. ولم تنشأ في هذه المدينة جامعة إلا بعد خمسة وثلاثين عامًا من بدء الحركة التصحيحة المباركة والمجيدة كما يردد البعثيون، حيث افتتحت فيها في عام 2005، بعض الكليات ملحقة بجامعة الفرات الصغيرة في دير الزور، والتي كانت تفتقر إلى الكوادر العلمية الكبيرة.
مع اندلاع الثورة السورية هبّت الاحتجاجات ضد النظام في المدن والبلدات الفراتية. كان تمثال باسل الأسد في دير الزور من أوائل الصروح والرموز الاستبدادية التي هوت على الأرض وداستها أحذية المتظاهرين، سابقًا تحطيم تماثيل حافظ الأسد في الكثير من المدن السورية، واشتعلت مدن الفرات بالحراك الثوري الذي أثبت شجاعة وإقدامًا في مناطق كثيرة، مثل مو حسن والميادين والطبقة والبوكمال، وكانت جنازة تشييع الشهيد علي البابنسي في آذار 2012، في الرقة من أكبر مظاهر الاحتجاج في الجزيرة السورية، حيث زاد عدد المشاركين فيها على 100 ألف مشيع ينددون بنظام الاستعباد المخابراتي.
وقصفت طائرات النظام المدن والبلدات الفراتية، أسوة بإجرامها في المدن السورية الأخرى، واستهدفت المدارس والأفران والتجمعات السكانية في رد فعل غرائزي ووحشي، تعرّى فيه النظام من كل مظاهره التجميلية المزيفة، التي انتهت أخيرًا باستجرار عروض الدمار الإيرانية والروسية لتستكمل مهامه الحقودة.
ولم تكن داعش أقل قسوة من النظام الذي تتشبه بأفعاله وبطرق تعذيبه، وتتبنى كل نظرياته في احتقار الناس والتقليل من شأنهم، واعتبارهم مجرد ديكورات بشرية لابد من وجودهم لاستكمال مظاهر الدولة، فالناس عند داعش يطلق عليهم اسم “العوام” وبمعنى قريب من وصف “الرعاع”، بالمقارنة مع ألقاب مبايعي أوهامها، إذ تزخر بالتبجيل الذي ينافس تبجيل ضباط المخابرات.
استهدفت داعش مراكز التعليم كالمدارس والجامعات القليلة، وأعلنت عداءها الصريح للتعليم واعتباره مجرد بدعة غربية يجب القضاء عليها، ليستسلم السكان لها وليسلموها مقاليد الحكم بقيم عمياء ومهترئة، ومعادية لقيم العلم والحضارة الإنسانية.
وقامت داعش بتحويل مدينة الرقة إلى عاصمة ثانية لها بعد الموصل العراقية، وعملت على تحويلها إلى مركز للتخطيط بشن هجمات على الدول والشعوب الأخرى، لتستجر أنواعًا جديدة من الدمار والخراب على الرقة وعلى عموم مدن وادي الفرات.
لم يكن البناء والتعليم سهلًا على أهالي وادي الفرات خلال الستين سنة السابقة، وكان إنجاز هذا القدر من التعلم والتحضر أمرًا شاقًا، وسط الإهمال والتهميش من قبل النظام، وها هي منجزات الإعمار والتعليم يتم دكها من قبل الطائرات الدولية بعد أن شبعت قصفًا من الطائرات الأسدية، وتفرّق أبناء الجزيرة السورية على المدن الأخرى، وعلى البلدان المجاورة وبدأت تلحق بهم تهم النظام الجديدة، فبعد أن كانوا متهمين بأنهم عملاء لصدام حسين في عهد المخابرات العسكرية، صار تعميم تهمة الانتماء لداعش هو الرائج في عصر المخابرات الجوية، ومختلف أنواع أجهزة القمع الأسدية، ناهيك عن الميليشيات الإيرانية، والكردية التي تتهم كل أبناء الجزيرة العرب بالعمالة لداعش، بهدف إفراغ الجزيرة السورية والاستيلاء على مقدراتها، لاستكمال الهلال الشيعي الإيراني، أو لتوسيع دولة “روج آفا” التي يشرف عليها قادة جبال قنديل.
من يغير سيناريو الخراب المستمر، وينقذ وادي الفرات من العودة الى القرون البائدة، فطائرات النظام وطائرات الروس وطائرات التحالف، وميليشيات إيران و””PYD يتفقون جميعًا مع داعش على تدمير ما بناه أبناء الفرات بشق الأنفس، فكل بناء، وكل بلدة استغرق إعمارها عشرة أضعاف الزمن اللازم للبناء في المناطق السورية الأخرى.
من يجنب وادي الفرات المصير الأسود الذي يُساق إليه؟
هل سيتخلص أبناء الفرات من حالة الشعور بالعجز واليأس، هل سيصحو المتورطون مع داعش وأمثالها، ويعون بشاعة ما يقومون به ضد أهلهم وأبناء بلدهم، وما يجرّونه من دمار وخراب، ويأخذون المبادرة بأيديهم مع أبناء بلدهم، وينقذون أنفسهم وأهاليهم من هذا السرطان الأسود؟
سؤال مرّ وصعب، ويقترب من الحلم، فهل من مجيب؟