لا مفر من القراءة، بعد طول تمنع وتردد. النص لا يكشف سراً ولا يفضح ستراً. هو مجرد فصل جديد من تاريخ سوري ممتد نحو نصف قرن أو أكثر، لكنه موثق بشهادات وصور وبيانات أدق من ذي قبل، ومدعم بوقائع وأرقام لم يسبق ان جمعت في فترة زمنية لا تتعدى السنوات الخمس.
وما بين الاحساس بالرعب والغثيان، الذي تثيره القراءة الالزامية السريعة، وما تنتجه المخيلة من أفكار وأعراض مؤلمة، وما تستعيده الذاكرة من نصوص مشابهة وتواريخ غير بعيدة، تترسخ الفكرة بان تلك الفظائع هي قدر سوريا ولعنتها، مثلما هي نتاج العلاقة المَرضية المضطربة بين سلطتها وبين شعبها.
فجأة يخطر في البال ان النص يبوح بما يرفضه الجميع ، ويقدم الدليل على ان الحرب الراهنة، التي كان يعتقد انها تقترب من نهاياتها، المتمثلة في إتفاق تجريبي لوقف النار ، وفي مفاوضات إختبارية للسلام، وفي مسودة دستور تؤسس لمرحلة انتقالية فعليةـ، ما زالت في مستهل المئة العام المفترضة لحسم ذلك الصراع الدامي الذي تمتد جذوره الى قرون عديدة مضت، بل ربما الى موعد الاقامة البشرية الاولى على تلك الارض المعذبة.
كيف يمكن لأحد ان يتخيل نهاية وشيكة، في غضون عقد أو إثنين ، لصراع يفجر هذا القدر من الاحقاد والامراض ، ويراكم هذا الكم من الجثث وهذا النوع من التمثيل بالجسد والفتك بالعقل. للجلاد أهل وأقارب وأصدقاء لا ينبذونه ولا يستنكرون وحشيته، وللضحية أهل وأقارب وأصدقاء لا ينسون ولا يسامحون. الانتقام المتبادل هو الخيار الوحيد. والتصفية النهائية هو الرجاء الاكيد.
الفظائع مستمرة. الآن ربما، ثمة من يلفظ أنفاسه الاخيرة في سجن او معتقل او مفرزة أو حاجز، ليضيف الى المذبحة رقماً جديداً ، وليكسب القاتل تشجيعاً على المضي قدماً في مسار التخلص من الآخر، طالما أن النهاية من وجهة نظره صارت وشيكة، والاستسلام هو قاب قوسين أو أدنى. عندها لن يبقى على قيد الحياة، سوى النفوس المستعدة للنسيان والغفران، وتمزيق النصوص المتكررة والمتلاحقة عن مجازر باتت تشكل علامة ثانية من علامات الجغرافيا السورية.
إنها حرب المئة عام. ذلك هو الاستنتاج الابعد الذي يخرج به أي قارىء لتقرير منظمة العفو الدولية عن المسلخ البشري في صيدنايا. يمكن للمتفائل أن يحسم من تلك الحقبة الزمنية، الاعوام ال47 الماضية، التي حفلت هي الاخرى بمذابحها المسجلة والموثقة والمعروفة جيداً ، والتي تبدو معها الحرب الحالية مجرد تتمة منطقية، تتوج الصراع الازلي وتدفعه الى ذرى غير مألوفة.
التوصل الى مثل هذا الاستنتاج مستمد من حقيقتين مذهلتين: ثمة تسليم سوري، موالٍ ومعارضٍ، بان ما ورد في التقرير هو من عاديات الحرب ومن تفاصيلها العابرة، التي لا تستحق سوى بعض الهجاء او الرثاء لا أكثر. وثمة تسليم خارجي بان هذه هي سوريا وتلك هي حربها ، ولا داعي للتدخل لوقف تلك الاعمال الهمجية، على الاقل، او حتى لاستثمارها في الصراع على الحكم او على الشعب، او على ما تبقى من مصالح على الارض السورية.
بعد أسابيع، او حتى أيام، سيسقط التقرير من الذاكرة، ويسحب من التداول ، ويوضع على رفٍ يحتوي على العشرات من التقارير المماثلة. وسينسى الجميع ما كان يمكن للمعارضة السورية أن تفعله، وما كان يمكن لحلفائها وأصدقائها العرب والاجانب ان يقوموا به، من أجل إقفال سجن صيدنايا أو إخضاعه لرقابة ما، أو إدراجه على جدول أعمال ما.
ثمة فظائع تحدث الان بالذات، ولا بد من الاستعداد لتلقي أنبائها والتفاعل (العاطفي والوجداني) مع وقائعها..قبل متابعة مسيرة حرب المئة عام التي تميزت حتى الان بقدر هائل من اللامبالاة الانسانية.