حذام زهور عدي
عندما قرر حافظ الأسد ضرب مدينة حماة أوائل ثمانينيات القرن الماضي، كان يشيع أمام جلسائه، أنه إذا حدث حادث في القامشلي فهو على قناعة تامة بأن أحدًا من أهل حماة قام به، واليوم لا تهمنا مصداقية تلك القناعة، فالواضح أنها كانت مقدمات لعمل له أهداف متعددة، بقدر ما تهمنا الخطط والآلية التي نفّذ بها وعيده للمدينة وعلاقتها بما حدث ويحدث في سوريا، منذ ست سنوات حتى اليوم.
في المدينة كان تياران يمثلان الحراك السياسي بين سكانها، أحدهما: تيار ديمقراطي، مثلته حركة النقابات، وكان شعاره “الدين لله والوطن للجميع”، وكانت مطالبه دولة ديمقراطية مدنية تنعم بسلطة القانون وبفصل السلطات، وإصلاح نظام الحكم بما يكفل العدالة لأبناء الوطن جميعًا، وكان هذا امتدادًا لحركة مدنية وجدت في عدد من المحافظات السورية، وتيار آخر إسلامي متعصب، رأس ماله ردّ الفعل على طائفية النظام، وشعاره إقامة دولة إسلامية، وقد وجد أيضًا في عدد من المحافظات السورية، بدرجةٍ قد تكون أقل اتساعًا أو تشددًا.
وكان التيار الأول نشيطًا وقادرًا على استقطاب شريحة غير قليلة من المواطنين، لا سيما أبناء الطبقة الوسطى من المثقفين وأصحاب المهن المتعلمة، ومن يرجع اليوم إلى البيانات التي أصدرها التيار الديمقراطي سيجد تعبيرًا واضحًا عما سبق.
كانت خطة حافظ الأسد أولًا، عزل الديمقراطيين وتصفيتهم، سواء بالاعتقالات أو بالتصفية الجسدية، وحادثتا قتل الدكتور عمر شيشكلي بالطريقة الوحشية التي تمت بها، ثم قتل عمه عضو الكتلة الوطنية المقاومة للاحتلال الفرنسي وحرق مكتبته، دلائل لايرقى إليها الشك، إضافة إلى توجيه عناصر القوات الخاصة لاعتقال وتصفية الأطباء والمهندسين والمحامين الذين كانوا يمثلون ذلك التوجه.
أراد حافظ الأسد أن يبدو أمام العالم، الغربي خاصة، أنه ضحية إرهاب إسلامي متطرف لا غير، ولذا كان لا بد من تصفية التيار الديمقراطي الذي يفضح استبداده، كما أراد أن يحشد الطائفة العلوية حوله من خلال فزاعة التطرف الإسلامي الذي يعرف الأسد تمامًا تهوّر تفكير عددٍ من أصحابه، ولا سيما الشباب منهم، وميلهم إلى العنف والتوجه الجهادي، وسهولة اختراقهم الأمني وجَرهم إلى المربع الذي يحقق أهدافه.
وهكذا هيّأ الأسد البيئة المناسبة لتدمير المدينة، وقد أصبح من المعروف أن ما حدث من مغالاة بالتدمير والمقتلة كان أكبر بكثير من المعارضة المسلحة بسلاح فردي قَدّمت أجهزته أغلبيته، بل هي التي نادت بالجهاد، كما قيل، لتوريط البسطاء من أهل حماة، وتحقيق أهداف أكبر من قمع تمرد أصولي “إرهابي”.
واللافت أن انشقاقات عسكرية كثيرة حدثت أثناء المجزرة كان يُقضى عليها مباشرة، وقد تحدث أطباء المشافي أن أعدادًا غير قليلة من الجنود والضباط القتلى كانت برصاص النظام ومن خلال إعدامات ميدانية.
استثمر الأسد ما حدث في حماة حتى الثمالة، فعقد الصفقات والمساومات، وغدا صاحب السلطة المطلقة بعد أن قضى على معارضاته كلها بحجة حماة، بل أصبح صاحب النفوذ الأقوى في المشرق العربي كله. واستطاع من خلالها أن يورث السلطة لابنه، حالِمًا بتحويل سوريا إلى مملكة أسدية.
عندما أعلن الشعب السوري ثورته في آذار 2011، كان نموذج حماة هو النموذج الأمثل والمرغوب من قبل عائلة الأسد وحاشيته، فنجاح الأب في القمع الوحشي للمدينة، والنتائج الباهرة لذلك القمع، عزّز دعوة العائلة والموالين للتعامل العنيف مع الحالة الجديدة، والسير على خُطا الأب القائد خطوة خطوة.
وهكذا بدأ الابن بملاحقة القيادات الديمقراطية جميعها، فهجّر من هجّر، واعتقل منها الكثير وصفّى جسديًا من اعتقد أنه الأكثر خطورة عليه، ولا سيما الشباب الجامعي أو الذي يملك نصيبًا من الثقافة والوعي. فعل ذلك كموجات أولى وثانية وثالثة، وكان أتباعه يُطلقون على العملية “قص العشب النابت”، فلم تبق من القيادات إلا من يُذعن لمشايخ السلطة أو مشايخ الجهل الذين لا علاقة لهم بالسياسة أو فهم الثورات وقيادتها.
وكما فعل الأب كان اختراق القيادات الجديدة من السهولة بمكان، وقدّمهم للعالم على أنهم “الإرهاب الإسلامي” الذي يريد أن يقضي على الدولة العلمانية… وكما فعل والده، وجد آلية العسكرة أفضل وسيلة للقضاء المبرم على الثورة، ووظّف العنف المطلق ليفرض الدفاع عن النفس على الثوار، وهو يعلم أن ما يملكه من الأسلحة كفيل بتدمير أي ثورة، ولا سيما حين يملك حجة وجود سلاح لدى الخصوم، فاتّبعها لتبدو الأمور كأنها حرب أهلية بين متطرفين إرهابيين وبين طوائف أخرى بقيادة السلطة “الشرعية” التي تقاومهم. وبذل المليارات مع حلفائه من أجل الضخ الإعلامي للترويج لذلك الادّعاء، وحصر طُرق المعرفة والأخبار لمريديه بالقنوات الموالية له ضمن رقابة مشددة.
وهكذا كانت حماة التجربة المؤسِّسة لمجازر سوريا الحديثة.
المشكلة اليوم ليست فيما إذا نجح الابن في ممارسة طريقة أبيه، إنما في أن الموضوع كان أكبر من مدينة يستطيع عزلها عن العالم لعدم وجود تماس حدودي لها مع دول الخارج، كما حماة، والتي قد يكون موقعها الجغرافي أحد الأسباب التي جعلت والده ينتقيها، وأن الظرف الدولي، والبُنية الشخصية له، وشمولية الثورة جعلت النتائج مختلفة، فقد دُمّرت سوريا كلها واحتلها من هبّ ودبّ، ولم يتبق من المجازر الجديدة إلا ضياع سوريا الوطن والشعب ولعنات التاريخ.