"كنتُ أؤجر بيوتًا للناس.. والآن أبحث عن بيت"
سقف وجدران فقط.. رحلة السوريين في البحث عن عنوان
عنب بلدي – حنين النقري
يمكن اعتبار تأمين منزل خاص في سوريا من أبرز التحديات المادية التي تواجه كل أسرة، إذا لم تكن ابن عائلة ثريّة أو تحصل على مساعدة مادية تمهّد لك الدرب. كان الأمر يعني سنواتٍ من التفرغ التام للعمل لشراء منزل “يلمّ” عائلتك المستقبلية، أو اللجوء للاستئجار، بسبب غلاء العقارات بشكل أساسي.
وإذا كان تأمين المنزل على هذا القدر من الصعوبة قبل الحرب، فماذا عساه أن يكون اليوم بعد تضرر قطاع الإسكان بنسبة 65%، وتدمير ما يزيد عن مليوني مسكن، وارتفاع معدل البطالة حتى60%، وانخفاض متوسط دخل الفرد بنسبة 23%، إضافة إلى تجاوز عدد النازحين داخليًا سبعة ملايين ونصف، ومثلهم عدد اللاجئين خارج سوريا، ما يعني بحث ما لا يقل عن 15 مليون سوريّ عن مأوى يلمّ شتاتهم.
ريمة، لاجئة سورية فلسطينية مقيمة في ألمانيا، هي واحدة من هذه الملايين، استطاعت منذ أيام توقيع عقد استئجار منزل بعد طول انتظار في المخيّم، وهو ما جعلها تنسى كل تعب البحث، حسب تعبيرها، لتقول لعنب بلدي وضحكتها تشي بسعادتها “وأخيرًا، صار لي عنوان”، لا تلبث الضحكة أن تتحول إلى تأثر تعبّر عنه بقولها “المضحك المبكي”.
تغريبة مستمرة
على صوت قذيفة اخترقت غرفتها صباحًا استيقظت ريمة، ليكون هذا الهلع تذكار صباحها الأخير في مخيم اليرموك، وفي بيتها الذي ولدت فيه، وتبدأ رحلتها التي لم تنته في البحث عن بيتٍ، تقول “منذ نهاية عام 2012 بدأتُ همّ البحث عن بيوت، الأسعار النارية في دمشق، تأمين الإيجار الشهريّ، وتدقيق أصحاب البيوت وزياراتهم المفاجئة لتفحّص البيت وإحصاء عدد الساكنين فيه، انتهاء العقد والبحث عن بيت جديد، الدوران في حلقة مفرغة”.
كملايين من السوريين لم تتمكن ريمة وزوجها من الاستمرار في العيش تحت الضغوط الأمنية في دمشق، فخرجت منها عام 2015، وتقول “بعد عناء كبير سببه التعقيدات الإضافية لوضعنا كفلسطينيين وصلتُ إلى ألمانيا في الشهر العاشر من عام 2015، لكنّ حالي لم يكن أفضل من هذه الناحية، تغريبتنا ماتزال مستمرة”.
رفاهية الخصوصية
لم تتوقع ريمة أن تطول إقامتها في “الكامب”، فبحسب تجارب الأهل والأصدقاء لن تتجاوز المدة ستة أشهر “على أبعد تقدير”، لتنتقل بعدها إلى منزلها الخاص، لكن ذلك كان بعيدًا عن الواقع “عامٌ كامل مرّ على وجودنا في الكامب قبل أن نحصل على موعد المقابلة وننال الإقامة بسبب ضغط اللاجئين وأعدادهم الكبيرة، عام من عدم الخصوصية والتعطيل والمصاعب التي لم نحسب لها حسابًا، صار وجود باب أغلقه عليّ حلمًا دافئًا، وبات عيشي ولو في غرفة واحدة تليق باحتياجاتي كإنسان رفاهية كبيرة مقارنة بما نعيشه”.
تعقيدات قانونية
بعد عام كامل من بقائها في المخيم، حصلت ريمة على إقامة لمدة عام، وهو ما يتيح لها الخروج من الكامب. لكن المصاعب لا تنتهي هنا، فالبحث عن منزل مهمّة صعبة على اللاجئين، لما للأمر من تعقيدات إدارية وقانونية.
وتوضح “عند الحصول على إقامة يحدد مركز العمل شروطًا للمنزل الذي يمكن للاجئ استئجاره حسب عدد أفراد الأسرة، المساحة العُليا المسموحة، والحدود العليا للإيجارات والفواتير التي سيدفعها المركز، ما يجعل خيارات اللاجئ قليلة جدًا، إضافة إلى امتناع بعض أصحاب البيوت عن تأجير اللاجئين، وصعوبات اللغة، كل هذه الأمور تقف عائقًا أمام إيجاد اللاجئ للمنزل وتؤخر خروجه من “الكامب” أشهرًا بعد تحصيله الإقامة، ويضاف إليها “ضغط مسألة السكن حتى بالنسبة للألمان في الولايات الغربية، ومنع اللاجئين من تغيير ولاياتهم التي سلّموا أنفسهم بها في حال عدم وجود مبرر كالعمل أو الدراسة”.
أفرزت هذه الصعوبات تحديات من نوع آخر بين اللاجئين، مثل التنافس الشديد على المنازل وعدم التعاون، وظهور “السماسرة”، بينهم حسب ريمة “عمل السماسرة الأساسي هو تسهيل إيجاد البيت على اللاجئين بسبب علاقاتهم الواسعة ومعرفتهم باللغة، لكنهم في معظم الأحيان يستغلون حاجة اللاجئ ويطلبون أسعارًا باهظة لقاء خدماتهم”.
نوم على السرير!
بعد أربعة أشهر من البحث، وجدت ريمة وزوجها منزلًا يتوافق مع الشروط والميزانية المتاحة، وتحقق حلمهم بالانتقال إليه، لكن متاعب من نوع جديد بدأت تظهر “استيقظتُ في اليوم الأول على آلام في ظهري بسبب النوم على سرير، تخيلي لم أنم على سرير منذ عام ونصف”، تقول ريمة عن ليلتها الأولى في منزلها الجديد، وتضيف “نسينا الدلال”.
صعبة كتير.. صعبة
“كنتُ أؤجر بيوتًا للناس، والآن أنا أبحث عن بيتٍ للإيجار”، يختصر الحاج أبو عبد الرحمن، وهو ستينيّ من ريف دمشق يقيم في ولاية اسكندرون بتركيا، قصّته بهذه العبارة، ويضيف بغصّة “خرجتُ من سوريا منذ عامين، لديّ عدّة بيوت في الغوطة الشرقية المحاصرة والتي كنتُ أعيش من تأجيرها لكنني الآن صفر اليدين، هنا في تركيا حالي مثل الجميع، أبحثُ عن بيت يؤويني، أدفع الإيجار لصاحبه في نهاية الشهر، وأخشى أن يزيد عليّ الأجر أو لا يجدد لي العقد”.
لا يتوقف الحاج أبو عبد الرحمن عن مقارنة حاله كلاجئ بحاله في بلده، يقول “أشعر بأنني إنسان آخر، العيش في مكان يملكه شخص آخر هو ما لم أكن أتوقعه أبدًا، من الصعب على من هم في عمري تقبّل تغيّر أحوالهم بهذا الشكل، وأصعب ما في الأمر أن تخرج من منزلك في هذا العمر، يعمل الإنسان طيلة حياته ليؤمّن نفسه في كبره ولا يحتاج أحدًا، هذه هي الغربة الحقيقية، صعبة كتير، صعبة”.
غربة داخلية
رغم أنه مايزال مقيمًا في سوريا، إلا أن مراد، الموظّف بشركة خاصة في حمص، يرى أنه يعيش بغربة لا تقل عن غربة اللاجئين في الخارج، ويقول “صعوبات البحث عن سكن لا تقتصر على اللاجئين فقط، فمثلًا سيستلزم منك البحث عن سكن في أحياء حمص ما يزيد عن الشهر إلى ثلاثة أشهر، الضغط كبير نتيجة دمار الكثير من البيوت وقلة عدد الأحياء القابلة للسكن”.
قبل الحرب، عاشت عائلة مراد في شتات دائم بسبب عمل أبيه في السعودية لتأمين المعيشة، يقول “عمل أبي سنوات عديدة في السعودية، كنا لا نراه إلا بضعة أيام في العام الواحد، حتى استطاع تأمين ثمن منزل وقرر أن يستقرّ في حمص قبل الثورة بعامين تقريبًا، اشترى والدي منزلًا في حيّ الوعر، وبدأنا نستعيد إحساس العائلة ولمّتها”.
منزل العمر
لكنّ هذا الإحساس لم يدم إلا أربعة أعوام، إذ اضطرت عائلة مراد للخروج من الوعر بعد تشديد القصف عليه من قبل النظام، ولجأت إلى استئجار منزل في حيّ الإنشاءات كحلّ مؤقت، يتابع مراد “كما الجميع، ظننا أننا سنعود لمنزلنا بعد أسابيع، لكنّ القصف تصاعد ضد الحيّ، وهو ما هدم العديد من المنازل ومن بينها منزلنا بشكل جزئيّ”.
بشكل متزامن مع الخروج من الوعر ودمار منزل العمر، أو بسببه، مرض والد مراد بشدّة، وكانت نتيجة الفحوصات استفحال مرض السرطان بجسده لدرجة متقدمة، ويتابع “نسينا كل شيء أمام السعي لصحة والدي التي تتدهور كل يوم، لم يتحمل جسده المرض، وتوفي خلال أقل من عام من تشخيصه”.
يتحسّر مراد على السنوات التي عاشها بعيدًا عن والده، يقول “لم نعش كأسرة واحدة إلا أربع سنوات، توفّي أبي، والمنزل الذي تغرّب وعمل سنوات لأجله تهدّم، وأنا بين مكتب عقاري وآخر أبحث عن منزل للإيجار، ومن عمل لآخر لأتمكن من سداد أجرته”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :