أيام من الثورة الفرنسية
عنب بلدي – العدد 86– الأحد 13-10-2013
لا يكرر التاريخ نفسه عن عبث، وليس عبثًا أيضًا أن يكرر دروسه، تلك التي لا يملّ من إعادتها جيلًا بعد جيل، لعلّه في ذلك يختبر من استفاد منها ومن لم يستفد، ويعطي الأجيال القادمة فرصًا جديدة لتلافي الأخطاء، فهل يتلافونها حقًّا؟
ربما نغفل عن هذا مطوّلًا، لكن قراءة واحدة لصفحة تاريخية قد تذكرنا به، فنشعر أننا نقرأ عن لحظات مررنا بها للتوّ، كأنما استعادتها الذاكرة من بعد غياب، وبالطبع ليست الثورات خارج هذا السياق، فكثير من مواقف الثورات قد تكررت -وتتكرر حتى اليوم- تنتظرنا ﻷن نقرأها فنفهما ونحلّلها؛ نتجاوز سلبياتها؛ نكرّر محاسنها، لنأتي بثمار أفضل وخسائر أقل.
الثورة الفرنسية على سبيل المثال أحد أكبر المصادر التاريخية العالمية شمولًا ودروسًا، فمرورها بمراحل مختلفة جعلها منجمًا للعديد من الدروس ولأنواع مختلفة من الثورات..
تقسم الثورة الفرنسية تاريخيّا إلى مراحل ثلاث، فالعصر الأول فيها هو عصر الجمهوريين الديمقراطيين بقيادة الجيرونديين، وانتهى هذا العصر بتغلّب «الإرهابيين» بعد أن نجحوا بإعدام الملك لويس السادس عشر وساقوه إلى المقصلة في 1793م، بقرار أخذوه بالأغلبية في المؤتمر الفرنسي الوطني، ليبدأ بعدها عصر جديد هو عصر الإرهاب، أما العصر الثالث فقد سمّي عصر الاعتدال، وفي كلّ من هذه المراحل دروس وعبر تستحقّ التوقّف عندها، ﻷن سنن الكون والتاريخ لا تتغير بتغير مكان أو زمان.
كان أبرز قادة العصر الأوسط في عمر الثورة الفرنسية هو السفاح «ريسبيرو مارا» والمفارقة العجيبة أن «مارا» كان ملقّبا قبل هذا بصديق الشعب، مما جعل لكلماته صدى واسعًا، كلماته تلك التي كان يسددها على خصومه الجيرونديين فيجيّش بها الناس لسوء ظنّه بكل أحد، وﻷنه كان يرى الخونة في كل مكان.
حصدت المقصلة في هذا العهد الأحمر رؤوس عشرات الآلاف ممن شاركوا في بدايات الثورة الفرنسية، حيث كان عهد انقلاب للثورة على نفسها ومخلصيها، بأيدٍ أضحت تعتقد أن لها الأحقية في الحكم والتسلّط، فشاع الاضطهاد والتقتيل لكل من يقول بالاعتدال والترويّ. كان ذلك –يا للعجب- عقب نجاحات عديدة للثورة الفرنسية وأبرزها إسقاط سجن الباستيل.
من الجميل أن نتمّ هذا الحديث التاريخي بذكر خاتمة حياة السفاح «مارا»، ذاك الذي ألجأه خوفه من خصومه إلى شبكة الصرف الصحيّ في باريس -المكان الذي كان يرسل منه خطاباته الدموية للشعب-، ما جعله يعاني من مرض جلدي خطير ألزمه طيلة أيامه بعدها في حوض ماء دافئ ليخفف من آثار مرضه. هناك توجهّت إليه راهبة تدعى «شارلوت كورداي» آمنت بالعصر الأول لثورة الإنسان وكفرت بما وراءه من ظلم فأرادت طيّ صفحته بنفسها إذ طعنت قائده المتمدد أمامها عدة طعنات ليموت إثرها سفاح عصره، ويخلد التاريخ اسمها وصوتها يعلو على منصة المقصلة «حسبي أني أديت واجبي.. وما عدا ذلك فباطل»
ليست حكاية تاريخية نرويها للتسلية، ولا يعني حدوثها في فرنسا من قرون أننا غير معنيين بها، فها نحن نرى ثورة شعبية مرّت بمراحل بشعة عديدة عقب نجاحها المرحلي، وها نحن نلحظ أن «أغلبية ما» غيّرت مجرى الأمور للأسوأ، وجعلت الثورة تتآكل وتأكل أهلها وشعبها وأودت بمخلصيها إلى الموت، وهذا ينافي ما نركن إليه ونطمئن لصحته من أن رأي الكثرة والأغلبية صواب دائمًا، ها نحن نرى أيضًا أن خطابات التجييش والعواطف جرّت فرنسا إلى مرحلة دامية سميت بعصر الإرهاب، ذاك الذي شاع فيه التخوين والقتل ﻷي سبب وﻷبسط نقد، ولا يعني هذا أن كل ثورة ستمر بهذه المراحل بالضرورة، لكنّه يعني قابلية تحوّل الأمور وتبدّلها إذا ما تركنا العواطف والتعصّب الأعمى يجرّنا من دون العقل إلى ما لا تحمد عقباه..
فهلّا قرأنا التاريخ.. ووعيناه؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :