ليس من قبيل الصدفة ان يكون مصدر الخبر الاول عن إعتلال صحة الرئيس بشار الاسد، موسكو بالذات، على الرغم من أن تسريبه تضخم مثل كرة ثلج جارفة، وصلت الى حد تداول أنباء مفبركة عن إحتضاره، ما أفرغ الخبر الروسي عن الضغط النفسي والسياسي على الرئيس السوري من محتواه، وألهم المعارضين بما ليس أوانه.
الضغط النفسي والسياسي صحيح، وآثاره ظاهرة للعيان. وهو مجرد إستكمال لتوجه روسي لا يقيم إعتباراً خاصاً للأسد، ولا يعتبره خطاً أحمر، كما يترجم موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أبلغ الرئيس السوري مرتين، منذ التدخل العسكري في سوريا، بأن عليه الاستعداد لعملية انتقالية فعلية، تضمن موسكو في نهايتها خروجا لائقاً له ولأسرته، من السلطة ..
لا حاجة الى دليل على ان تلك المرحلة الانتقالية السورية قد بدأت بالفعل. ما زال يحيطها الكثير من الغموض والالتباس، لكن ما يجري في عواصم العالم المعنية بتلك المسألة، يشي بأن معظم ثوابت الصراع قد سقط بالفعل، وأهمها ان الحسم العسكري غير متاح وغير مقبول لأي كان، ومثلما تلاشى طموح الرئيس بشار الأسد بأن يبقى حاكماً الى الأبد، إنتهى حلم المعارضة بأن تدخل دمشق لترفع على مؤسساتها راياتها المختلفة الأشكال والألوان.
وقف النار الروسي التركي الذي فرض في أعقاب معركة حلب، الشهر الماضي، كان المؤشر الأول، الذي أعقبته تحولات روسية مفاجئة، بحسب معطيات الميدان العسكري، ومرتكزات المشروع الإيراني، منها الاعتراف بأن القوى الإسلامية التي أفرزها الصراع، والتي كانت تحمل صفات الإرهاب والتكفير، جاهزة للإسهام الفعال في المواجهة مع داعش والنصرة، وحاضرة للمشاركة في الحل السياسي السوري، على ما ثبت في مؤتمر أستانة التأسيسي، الذي لم يفشل ولم ينفجر من الداخل، بل أطلق الخطوة العملية الاولى نحو الانتقال السياسي وهي طرح مشروع الدستور الروسي على النقاش العام.
لكن هذه الخطوات الاولية، واجهت، وما زالت تواجه، تحديات أميركية جدية. لم تكن واشنطن راضية عن وقف النار، وقد حاولت بشتى السبل، العمل على إحباطه، منها التقدم من المعارضين السوريين ومن حلفائهم العرب والاتراك، بعروض مغرية للتسليح النوعي والتمويل الجدي لم يسبق لها مثيل منذ بداية الصراع قبل ست سنوات، جاءت مباشرة من البيت الابيض ووزارتي الدفاع والخارجية ومن أجهزة الاستخبارات الاميركية. لكن الثقة السعودية والقطرية والتركية بواشنطن كانت شبه معدومة، وكان الخوف شديداً من خدعة أميركية متأخرة، مثلما كان الحرص شديداً على وقف القتال وإغاثة النازحين المتروكين في العراء.
لم يصبح بوتين شريكاً موثوقاً او مؤتمن الجانب. صار أكثر واقعية في التعامل مع الأزمة السورية التي لا يود ان تتحول الى افغانستان ثانية لروسيا. فالأسد، بالنسبة اليه، ليس أكثر أهمية من الرئيس الافغاني الاخير نجيب الله، الذي أعدمته حركة طالبان فور دخولها الى كابول. وهو لا يريد ان يتقاسم مصالحه الرئيسية في سوريا، مع إيران، ولا يرغب في أن يكون الإيرانيون شركاء في حصر الإرث ولا في توزيع المغانم.
العملية الانتقالية في بداياتها الاولى. وكذا المغريات الاميركية المخادعة، التي لا يستبعد ان يكون آخرها اعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب، البحث في إنشاء مناطق آمنة في سوريا، بنصيحة من قادته العسكريين إياهم الذين عطلوا تنفيذ تلك الخطة طوال السنوات الخمس الماضية، برغم إلحاح تركيا وقطر بالذات على هذا الشأن. لكن واشنطن ليس لديها حلفاء او أدوات في سوريا وخارجها يودون المضي قدماً في ذلك الاتجاه الآن.. حتى ولو بدا أن ثمة تقاطعاً للمصالح الاميركية مع إيران في المرحلة المقبلة.
في ما مضى من عمر الأزمة السورية، ترددت أكثر من مرة، عبارة “تأهيل” النظام السوري للرحيل، وتأهيل المعارضة السورية للحكم. الآن يبدو أن الفكرة تكتسب زخماً جدياً، برغم أن أحداً لا يستبعد أن يكون الخداع متبادلاً بين بوتين وترامب، وأن يكون السوريون على موعد جديد مع العذاب.