عنب بلدي – حنين النقري
غالبًا ما ترتبط أكبر الخسائر بما لا يمكن رؤيته بالعين، فيتعذّر إحصاؤه برقم. ومنه، قد تكون أكبر خسارات السوريين بعد ستة أعوام من الحرب، لا تتعلق بما تصدره وكالات الأنباء من أرقام وإحصائيات، وإنما بما لم يتم إحصاؤه من تصدّعات بجوانب أقل وضوحًا، وأكثر عمقًا، ومن بينها: العلاقات الاجتماعية للسوريّين، وتفككها بشكل كبير.
“لا أعرف شيئًا عن أبناء وبنات عمومي وأخوالي ممن كانوا أصدقائي يومًا”، بهذه العبارة تلخّص ماريا (30 عامًا)، وهي سورية مقيمة في تركيا، واقع علاقاتها العائلية، وتتابع “أتواصل اليوم مع صديقة واحدة مقرّبة، وعدا ذلك من علاقات كلّه انقطع دونما نيّة مسبقة بالقطيعة”.
“البعد جفا“
تعزو ماريا تفكك معظم علاقاتها إلى البعد الجغرافي، وتقول “كنا نلتقي أسبوعيًّا في منزل جدتي، هذا الاجتماع البسيط كان يجدد علاقاتنا، حتى السطحيّ منها، نتشارك فيه أخبار بعضنا البعض، ونتبادل الأحاديث”.
لكن العائلة الكبيرة التي كانت تقيم في مدينة واحدة، تفرّقت اليوم بين مدن وبلدان بل وقارّات، وهو ما كان له الدور الأكبر في تقليل التواصل بين أفرادها، من ثمّ انقطاعه كليًا، تضيف ماريا ” توفيت جدّتي منذ عامين، ولا ندري هل هدّمت الصواريخ منزلها أم مازال صامدًا، لكن ما أنا متأكدة منه أن البعد جفا، وهو ما قطع أواصر الأسرة، لدرجة لا أعرف معها شيئًا عن أحوال أشخاص كنت ألتقي بهم أسبوعيًا”.
تضيف ماريّا أنه وبالشكل نفسه، انقطعت الصلة بالجيران وبكل من كان القرب الجغرافيّ سببًا أساسيًا في تكوين علاقة معهم، وتقول “رغم أنني عند وداع جيراننا بكيت، وتواصلتُ معهم بشكل شبه يوميّ في الفترة الأولى، إلا أن علاقة الجوار لم تعد موجودة، وهكذا انقطعت الصلات شيئًا فشيئًا، إلا من خلال المعايدات الرسمية”.
فقدان الخصوصية
على النقيض تمامًا من البعد الجغرافي، كانت “زيادة القرب” بأهل الزوج سببًا في تعكّر صفو علاقات صفاء، وهي ربة منزل تقيم في لبنان، تقول “توفّيت والدتي منذ عشر سنوات، ولما تزوجت وجدتُ في والدة زوجي أمًا ثانية، ولم أنادها إلا (أمي)، كنتُ أحبها بصدق وكنتُ أعتقد أنها تحبني، استمر الحال بهذا الشكل حتى اضطررنا للعيش في بيت واحد في دمشق، بعد أن خرجنا جميعًا من الغوطة، وهنا بدأت المشاكل تظهر وتطفو على السطح”.
تؤكّد صفاء من تجربتها أن “الحرب أخرجت أسوأ ما في الناس”، بل و”كشفت المخبأ”، حسب قولها، وتضيف “لم أتوقع أن تعاملني حماتي وابنتها بهذا السوء، تمنيتُ الموت مرارًا بسبب الذل الذي عشته معها، من يدخل إلى المنزل ويراني يعتقد أنني الخادمة بينهم، وكان لذلك أثره على تزايد الخلافات بيني وبين زوجي”، تتابع الشابة “تفاقمت المشاكل مع طلبي أن ننفصل عن أهل زوجي بالسكن، وانتهت الأمور بالطلاق، وسفري إلى بيت أخي في لبنان”.
هموم غير مشتركة
باعتباره أحد أشكال الحرب المطبقة على السوريين، أفرز الحصار تعقيدات جديدة على علاقات المحاصرين بمن سواهم، ومن بينهم محمود، طالب جامعي محاصر في الغوطة الشرقية، يقول “لا أشعر بوجود أي شيء مشترك مع أصدقائي خارج الغوطة، همومنا مختلفة، تفاصيل حياتنا مختلفة، والمخاطر المحيقة بنا مختلفة أيضًا، ففي حين أخاف من الغارة، يخاف صديقي من حديثي عن الغارة على الهاتف ومن الاعتقال، وفي حين أخاف من تقدّم جيش النظام، يخاف صديقي من تقدّم قوات المعارضة”، ويضيف “في الحقيقة ألاحظ تجنّب العديد من أصدقائي في دمشق الحديث معي، ربما لأنني في منطقة معارضة”.
يشير محمود إلى نقطة مهمّة تمنع تواصله الحقيقي مع “غير المحاصرين”، وهي المقارنة الدائمة بين واقعه وواقعهم، يشرح ذلك “حتى أثناء التواصل مع أفراد عائلتي خارج الغوطة أو خارج سوريا، غالبًا أقارن معيشتهم بمعيشتنا، ومقدرتهم على التنقل والسفر بحصارنا في بقعة جغرافية محددة ومحدودة الموارد، وحياتهم المستمرة بحياتي المتوقفة، وهكذا أفضّل أن أقنّن التواصل لأبعد حد، للتقليل من مقارنات مؤلمة لا طائل منها، عدا عن انقطاع شبكات الاتصال ولجوئنا لحلول وبدائل مكلفة”.
لكن “تقنين التواصل”، حسب تعبير محمود كان له أثره على قوة علاقاته حتى بإخوته في الخارج، وهو ما يصفه بقوله “اليوم، لا أجد حديثًا واحدًا لأفتحه معهم، ليس بيننا إلا الماضي لنتذكره معًا”.
“فرطت الشلّة“
يعدّ العامل السياسيّ من أبرز أسباب انقطاع العلاقات منذ اليوم الأول للثورة، إذ سرعان ما ظهرت انقسامات واضحة في الشارع بين موالاة في صفّ للنظام، ومعارضة على الطرف المقابل له، وعن هذا تقول ميسم، مهندسة سورية تقيم في ألمانيا، “كنا أربع صديقات مقرّبات في الجامعة، لكننا لم نبقَ كذلك بعد تأييد اثنتين منّا للنظام بشكل (تشبيحي)، ومشاركتي أنا وصديقتنا الرابعة بالثورة لأبعد حد، لم يكن من الممكن أن أتصالح مع أغان تهتف لبشار تصدر من هاتف صديقتي، فيما ينهال رصاص جنوده على حيّي ومدينتي ضدّ العزّل، وهكذا (فرطت الشلة)”.
مع استمرار القتل وتصاعد وتيرة العنف، ومن ثم اضطرار ميسم للهجرة إلى ألمانيا بعد مقتل والدها، لم تعد المياه إلى مجاريها، بل ازدادت سوءًا، تضيف “حادثتني مؤخرًا صديقة من الشلة القديمة، لم يكن حديثها وديًّا للسؤال عن حالي، بل كان مجرّد تشفٍ بما آل إليه حالنا، وأشارت إلى ما جنيناه على أنفسنا بمعارضة النظام، وأيّ نعيم كنا نعيش فيه في سوريا قبل 2011، ثم سألتني بسخرية (كيف لقيتي المخيم)”.
تؤكد ميسم استحالة إقامة صداقة مع أشخاص يشمتون بآلام الآخرين ومشاعرهم بهذا الشكل، وتضيف “لا يمكن أن تعود المياه لمجاريها مع أشخاص وقفوا إلى جانب الظالم منذ اليوم الأول، وأطلقوا على المتظاهرين اسم المسلحين قبل أن يحملوا السلاح”.
العلاقات القوية “تصمد“
لا يوافق ماجد (29 عامًا)، مهندس يقيم في تركيا، على جعل البعد الجغرافي “تبريرًا” لتفكك العلاقات، ويضيف “البعد يفكك العلاقات الهشّة أساسًا، لكن الصلات القوية تستمر وتصمد في أي مكان وتحت أيّ ظرف، وهو ما جرّبته عند سفري إلى تركيّا، بقي في سوريا كل أهلي وأصدقائي تقريبًا، وهذا كان اختبارًا حقيقيًّا لكل واحدة من هذه العلاقات ومدى متانتها”.
ويتابع ماجد أن بعض صداقاته فقدت بالفعل قوتها وزخمها مع السفر، لكن علاقات أخرى بالمقابل استمرّت بشكل يوميّ دونما انقطاع، بنفس الألق، حسب تعبيره، “أتصل بأهلي بشكل يوميّ أو شبه يوميّ، أحتفل معهم بالمناسبات السعيدة بالصوت والصورة ولا أنسى عيد ميلاد أحد منهم، لديّ مواعيد ثابتة أسبوعيًا لأحاديث مطولة مع أصدقائي المقربين، ومازلت على اطلاع بكامل أخبارهم، وكأنني مقيم معهم”.