حمص – جودي عرش
لم تعد “الصبحية” تجمع بين نساء حي الوعر المحاصر على فنجان القهوة، بل جُمعن في شوارع الحي وأزقته أثناء بحثهن عن مؤونة يوم أو بضعة أيام، من عيدان الأشجار التي أصبحت بفعل الحصار بديلًا أساسيًا عن مادتي المازوت والغاز، والساند الأكبر في ظل غياب رب المنزل.
حوّل الحصار في حي الوعر الحمصي حياة النساء من اعتيادية، إلى حياة مليئة بالالتزامات، وأصبحت رفاهية العيش حلمًا يضاف إلى أحلام المحاصرين، المتمثلة بالحرية والأمان، وفق ما تحدثت به الأربعينية إيمان عبد الحليم إلى عنب بلدي.
تقول السيدة “باعتباري امرأة لاحظت فروقات في حياتي عبر ثلاث مراحل، اختلفت إحداهن عن الأخرى اختلافًا جذريًا”.
في الفترة التي سبقت أحداث الثورة السورية، تتابع السيدة، “عشت حياة مرفهة ضمن عائلتي، أما في مرحلة الثورة فقدت تلك الحياة تدريجيًا، فالتهجير أول الأسباب، واضطررت لترك ممتلكاتي، والابتعاد عن مملكتي الخاصة (المنزل)، وأسهم الحصار بشكل كبير في تجريدي من أبسط الحقوق كالأمان والمستلزمات وتوفر متطلبات العيش”.
الحصار الذي فرضه النظام السوري منذ عام 2013 على الحي، جعل لحياة إيمان شكلًا آخر يختلف عن حياتها الماضية، ومن الصعب أن تعود كما كانت عليه.
تقول السيدة الحمصية “في الماضي لم تملك المرأة غازًا تطهو عليه، لكنها امتلكت ببورًا صنعت عليه أشهر الطبخات السورية”.
وتضيف “لا نملك وقودًا يصلح لإشعال ذلك الببور، نطهو على المدافئ والموقد التي يعمل على وقود من العيدان والأخشاب والقمامة، التي نقوم بجمعها بشكل يومي من الشوارع”.
“نسينا طعم اللحم والمأكولات الشهيرة، وباتت وجبتنا الرئيسية مكونة من الأرز، أو البرغل، لتغدو الوليمة الكبرى أكلة (مجدرة الحصار)، والتي تختلف عن أكلة المجدرة العادية، بافتقادها للبصل، الذي يوضع على وجهها”، تضيف السيدة.
أب وأم بآن واحد
انعدام سبل العيش بعد سنوات من الحصار شغل نساء الوعر، ما أحدث تغييرًا واضحًا في العادات الحمصية القديمة كـ “الصبحية”، التي أصبحت مجرد ذكرى، وفق زينب جلال، إحدى قاطنات الحي.
تقول زينب لعنب بلدي “كحال المسلسلات الشامية كانت لدينا صبحية تجمع بين نساء الحي في كل صباح، وبدور منتظم في كل منازل الحي، نقضي فيها وقتًا ممتعًا برفقة فنجان القهوة، وفطور شعبي نشترك في جلب عدته وتحضيره، إضافةً إلى تبادل الأحاديث المتنوعة، وآخر الأخبار المتعلقة بحياتنا العائلية، مرورًا بأدق التفاصيل المتعلقة بنا”.
“اختلفت الحياة تمامًا، وانشغلنا بصعوبتها”، تقول السيدة، مشيرة إلى أن “الحواجز والعوائق دفعتنا للتخلي عن هذه العادة التي كانت الأكثر شيوعًا على الإطلاق”.
صعوبات الحياة وفقدان بعض النساء لأزواجهن جعلهن في موضع المسؤولية التي حتمت على النساء القيام بأعمال الرجال، المتمثلة في تأمين لقمة العيش وجلب الحاجيات، إضافةً إلى أعمالهن المنزلية، بحسب زينب، “لم تكن الحرب سهلة بأي حال من الأحوال، فمن النادر أن تري منزلًا يخلو من مصيبة قد غيرت حياة قاطنيه إلى الأبد، ومن الصعب أن تجدي رجالًا، فهم إما معتقلون أو شهداء أو مفقودون، الأمر الذي دفع المرأة للقيام بدورها كأب وأم وزوجة “.
فقدت زينب زوجها بعد اعتقاله من قبل قوات النظام قبل أربع سنوات، وأصبحت أبًا وأمًا لأربعة أطفال، وعلى الرغم من ذلك لم تفقد صبحيتها الخاصة، لتتحول من صبحية في منزل إلى صبحية في شوارع الحي.
تتابع زينب “على الرغم من المسؤوليات الإضافية التي حملتنا إياها الحياة، إلا أنها جعلتنا نتقاسم قصصنا ومسؤولياتنا في شوارع الحي، فنذهب أنا وصديقاتي صباحًا لجمع حاجاتنا، ونتبادل الأحاديث عن الحياة والتطورات طيلة الرحلة، لكن الفرق الوحيد هنا أننا لا نغلي القهوة”.
أساس المجتمع الحمصي
لم يمنع هذا التحول المرأة من مواكبة مسيرة الثورة، والعمل من أجلها، إذ تعتبرها الطريق الوحيد للخلاص من ظلم النظام واستبداده، وفق الناشطة الطبية والإغاثية، ياسمين أم جهاد، والتي قالت لعنب بلدي “برزت المرأة في شتى المجالات الثورية كالمجال الطبي، والإغاثي الإنساني والمجال الإعلامي، كما وجدت في مجال التدريس، واستطاعت بإصرارها أن تشارك في قيادة المجتمع كونها أمًا وزوجة، ومدرسة، وعاملة بآن واحد”.
كما أنها “استمرت في هذا العمل على الرغم من محاولات إيقاف أعمالها، خوفًا من الاعتقال، فهذه الأعمال نابعة من مواكبة الحراك، الذي لا يستطيع الرجل وحده السير به، فاليد الواحدة لا تصفق وعلى السوريين جميعًا أن يعملوا من أجل إزالة هذا النظام الذي جعل حياتنا مليئة بالألم والفقدان، وأثبت أنه الأكثر إجرامًا على مر التاريخ”.