براء الطه
بدأ هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” في 13 كانون الثاني الجاري، على مدينة ديرالزور محاولًا السيطرة على ما تبقى من الأحياء والقطع العسكرية فيها، والتي تقدر بحوالي 4% من مساحة المدينة.
استطاع التنظيم شطر مناطق سيطرة الجيش إلى شطرين، شرقًا: المطار مع أحياء هرابش وما تبقى من أحياء الصناعة والعمال والرصافة، وغربًا: اللواء 137 وبقية الأفرع الأمنية، وأحياء القصور والجورة، وما يسطير عليه من أحياء الموظفين والجبيلة والحويقة.
هذه النتائج كانت مستغربة بسبب السرعة التي تحققت فيها، والتي اختلفت عن سابقاتها من الهجمات.
إن دراسة مبسطة لمحاور الهجوم ومواقع السيطرة يمكن أن تكون كافية للإجابة على العديد من الأسئلة التي تُطرح حول الوضع الميداني في دير الزور:
أولًا.. لم تكن هذه النتائج وليدة الهجوم الأخير، وإنما محصلة لعديد الهجمات التي بدأ شنها مطلع 2015، وحصارِه المطبق للأحياء التي يسيطر عليها الجيش بعد قطع جميع طرق الإمداد إليها وعزلها، إضافة إلى الإهمال الذي تتعرض له هذه الأحياء من قبل النظام. فبعد كل هجوم يشنه التنظيم، تكتفي الوحدات العسكرية بتثبيت مواقعها الجديدة التي انسحبت إليها دون محاولة العودة إلى المواقع التي خسرتها، أو تكون محاولات العودة خجولة. بالتأكيد لا يمكن لوم هذه القوات المحاصرة أساسًا، ولكن يقع اللوم على النظام المهمل للوضع الميداني لهذه المنطقة.
ثانيًا.. اعتمد التنظيم في هذا الهجوم على إرسال مجموعات صغيرة العدد لكن بكثافة، معتمدًا على طلائع النخبة لديه، والهدف من هذا النوع من الهجمات هو إنهاك القوة المدافعة وبالتالي استسلامها، فكان الهجوم من محورين أساسيين، المحور الجنوبي لمناطق سيطرة النظام انطلاقًا من شرق البانوراما باتجاه العمق (الشمال)، مستهدفًا الخطوط الخلفية للجيش، أما المحور الثاني فانطلق من حي العمال وتحديدًا إلى الشرق من مبنى الدفاع المدني سابقًا، باتجاه الشمال، وذلك ليتلاقى المحوران في منطقة المقابر، بغية شطر مناطق سيطرة الجيش إلى شطرين وتحويلها إلى جزر منفصلة يسهل التعامل مع كل منها على حدة، وقطع طريق إمداد المطار، والسيطرة أيضًا على مواقع إنزال المساعدات الغذائية والعسكرية التي تقوم بها الطائرات العسكرية وطائرات الأمم المتحدة، فكان له ما أراد.
ثالثًا.. اعتمد التنظيم بالإضافة إلى هذين المحورين على فتح معارك في القطاعات الداخلية للمدينة بغية تشتيت القوات المدافعة وإرباكها، إضافة إلى القصف المستمر للأحياء التي يسيطر عليها الجيش، بعد يومين من الهجمات المستمرة. حقّق التنظيم السيطرة على منطقة المقابر، وقطع الطريق بين مناطق سيطرة الجيش الشرقية والغربية، كما تابع الزحف باتجاه الشرق، بغية السيطرة على كامل مواقع الجيش في جبال ثردة، والتي تشكل الحامية الأساسية لمطار دير الزور والمشرفة على جميع قطاعاته تقريبًا.
على الطرف المقابل لم يكن أمام الجيش سوى إعادة الانتشار والتراجع أمام هذا الزخم المتتابع من الهجمات، وذلك لعدة أسباب:
ـ التخفيف من الخسائر في العدد كونه بأمس الحاجة لأكبر قدر من الأفراد.
ـ فك حالة الالتحام بين القوتين المدافعة والمهاجمة.
– لإفساح المجال لسلاحي المدفعية والطيران للقيام بالاستهداف الناري.
ـ وضع القوة المهاجمة في منطقة مكشوفة “قتل”، وترك مهمة الاستهداف لسلاح الجو لاستنزافها.
وضِعَتْ القوات المهاجمة بين فكي كماشة إضافة إلى تعرضها للاستهداف من سلاح الجو الروسي، وهذا قبل أن تتدخل القاذفات الاستراتيجية من نوع توبوليف Tu-22M3، التي سجلت ثلاث طلعات، في كل مرة سرب مؤلف من ست قاذفات، أي ما مجموعه 18 طلعة خلال أقل من عشرة أيام من الهجوم، (تستطيع كل قاذفة حمل قرابة 24 طنًا من القنابل، ليكون مجموع ما أُلقي على المدينة ومناطق الاشتباك يتجاوز 400 طن من القنابل)، وهو أقل مما استهدف حلب في أكبر المعارك التي جرت فيها. وهذا يدل على أن دير الزور وضعت نصب العين العسكرية الروسية.
لم تحدث محاولة جدية للتقدم من قبل الجيش والقوات المساندة إلا قبل اليومين الماضيين، وذلك بغية إنهاك القوات المهاجمة وإلحاق أكبر قدر من الخسائر فيها في العديد والعتاد، رغم تسريبات (لم يتم تأكيد أي منها أو نفيها) عن عمليات إنزال جوي لقوات النخبة من الحرس الجمهوري (اللواء 104) وقوات حزب الله، كما جرى الحديث عن قوات نخبة روسية.
استعاد الجيش زمام المبادرة وبدأ بشن هجوم على المواقع التي خسرها، وسط تكتم إعلامي عن سير المعارك تلتزم به القيادة العسكرية.
بالعموم هناك عدة أسباب كانت وراء هذا الهجوم، الذي شنه التنظيم على دير الزور ومن أهمها:
ـ تعويض الخسائر التي لحقت به في كل من سوريا والعراق، وبالأخص في الموصل المعقل الرئيسي له وعاصمة خلافته.
ـ تنظيف البؤر الداخلية المتبقية للقوات المعادية كونها تشكل تهديدًا مستقبليًا على وجوده.
ـ الاستفادة من القوات التي تحاصر هذه الأحياء وتفريغها للدفاع عن المحيط بدلًا من الانشغال بالعمق، وترك عدد قليل منها يُلقى على عاتقه مهمة حفظ الأمن الداخلي للمناطق التي يسيطر عليها التنظيم.
ـ التحرك بحرية أكبر في هذه المناطق دون وجود أي قوة معادية تشكل عائقًا، وخاصة بعد تقطيع أوصال المنطقة الذي سبّبه تدمير الجسور.
هذه الأسباب اصطدمت بالرغبات الروسية، التي كان من الواضح أنها تتمسك بهذه البقعة الجغرافية تحديدًا بسبب أهميتها الاستراتيجية، كونها تُكمل مثلث السيطرة الجغرافية السورية (دمشق، حلب، ديرالزور) عدا عن كونها المنطقة النفطية الأولى في سوريا ومركز الشرق السوري. كما أن القوات التي بقيت فيها هي صمام الأمان الوحيد ضد أي مشروع أمريكي يهدف إلى تقاسم مصالح مع الروس في سوريا.
من الصعب أن يتمكن التنظيم من بسط السيطرة على هذه المنطقة بسبب وجود قوات نخبة، أصبحت تمتلك خبرة نوعية في ميدان المعركة، لكن هذا لا ينفي أن الأمر يتوقف على مدى تحمل الجانبين للخسائر البشرية في صفوف كل منهما وخاصة وسط الاستماتة التي يُبديانها لفرض السيطرة.