الجولاني قارئاً منطق الحرب
لا نعرف ما قد يخطر في بال أبي محمد الجولاني، قائد جبهة فتح الشام “النصرة”، إذا اطلع على الانتقادات التي أثارها هجوم حركته على مقرات حركة “أحرار الشام” قبل أيام. الهجوم لم يتفاقم ليصبح حرباً شاملة، لكن المؤشرات كلها تصب في عدم قدرة الأحرار على صد هجوم النصرة، وقد تصب في خانة انقسام أحرار الشام على خلفية القتال وانضمام قسم معتبر من مقاتليها إلى صف النصرة الرابحة.
قتال “أخوة المنهج” ليس بجديد، ولا بجديد عموماً انتصار الطرف الأكثر تشدداً. وإذا أخذنا لوحة المعارك الكلية خلال السنوات الأربع الماضية فلا شك في أن حصيلتها في صالح التشدد، أولاً من خلال تصفية فصائل تنسب نفسها إلى الجيش الحر هنا وهناك، ثم من خلال تبدل مواقع السيطرة ضمن الفصائل الإسلامية ذاتها، حيث يمكن بوضوح رؤية أن ما لم يكسبه النظام وحلفاؤه في بعض الجبهات كسبه المتشددون.
معركة حلب كانت دلالتها واضحة على هذا الصعيد، فتحت القصف الروسي لم تتورع النصرة وحلفاء لها عن مهاجمة فصائل توصف بالاعتدال، الأمر الذي ربما سرّع في سقوط المدينة، بينما كان عناصر النصرة “الأقل عدداً” في طليعة المغادرين بعد صفقة الانسحاب. بمعنى أن الخطر المحيق بالجميع لم يردع النصرة، وقد لا يردع سواها، عن تصفية الحسابات الداخلية ومنحها الأولوية. المسألة هكذا لا تتعلق بمنطق يتداوله مراقبون أو ناشطون، تُسوّق فيه الدهشة من تمزق الجبهات وهي تحت ضغط عدو مشترك، كشأن الدهشة الساذجة التي تصدر بسبب عدم اتخاذ النصرة الموقفَ الذي يحقن دماء السوريين عندما كانت الجبهة مهددة بالوجود على لوائح الإرهاب بسبب مبايعة تنظيم القاعدة.
لقد قيل الكثير في المغزى “الخبيث” من وجود النصرة على لائحة الإرهاب الدولية، فيما يخض استخدام وجودها ذريعة لضرب الفصائل الأخرى. لكن المغزى بالنسبة لقادة النصرة أنقسهم لا يحظى بانتباه مماثل، فالقرار الدولي الذي لا رجعة عنه يعني عدم وجود طريق عودة عن القتال، وحتى عن القتال بلا طائل ما دام الأفق السياسي معدوماً. الطريق إلى المواجهة من موقع القوة لا بد أن يمر من خلال احتكار كل ما يمكن احتكاره في الميدان، والدخول في تحالفات لا يضمر مطلقاً التخلي عن نوازع الهيمنة، طالما أن هذه التحالفات غير مضمونة، وطالما أن أطرافها لا تقع تحت الاستهداف الدولي وقد تدخل في أي وقت ضمن عملية تفاوضية تستثني النصرة.
مع التمهيد لمؤتمر آستانة تجتمع العوامل التي تدفع بالنصرة إلى استهداف جبهة أحرار الشام، بعدّها من أكبر الفصائل وأقواها تسليحاً، فالجبهة التي لا يغيب عنها الظل “الإخواني” مدعومة من تركيا أحد رعاة مؤتمر آستانة. وكما هو معلوم تتحكم تركيا بخط الإمداد الوحيد، ويُعتقد على نحو واسع أن إمدادات جميع الفصائل قد شحّت منذ تفاهمات فيينا، ومن المرجح أن تكون إمدادات النصرة على نحو خاص قد توقفت عطفاً على متانة العلاقة التي باتت تربط أنقرة بموسكو. فوق ذلك لم تعد الحكومة التركية تخفي انضمامها إلى “الحرب على الإرهاب”، وهي وإن ركزت اهتمامها على داعش لا تستثني النصرة من تلك الحرب، بل لقد استُثنيت النصرة من تفاهم الهدنة الهشة برعاية روسية تركية.
بمنطق الحرب الذي يقرأه الجولاني يكاد الحصار يطبق عليه خارجياً، وقد تأتي لحظة الحصار الداخلي إذا كان النجاح مكتوباً لمؤتمر آستانة، أو للعملية التي تقودها موسكو وأنقرة برمتها. استباق تلك اللحظة يتطلب ضرب الفصيل الآخر الأقوى، وبهذا يحقق مكاسب عديدة، أولها تخويف الفصائل من مغبة المضي في التسوية المطروحة، وبصرف النظر عن التسوية الحالية هذا ينطبق على أية تسوية لا تكون النصرة طرفاً فيها. المكسب الثاني هو توجيه رسائل خارجية عن قدرة النصرة على ضرب الفصائل الأخرى، وفرض واقع جديد تهيمن فيه الجبهة على الميدان، وهذا إذا كان لا يزعج الروس وحلفائهم، بل يؤكد على قولهم السابق بأن المعركة هي بين النظام والإرهاب، فإنه من جهة أخرى يُضعف الدور التركي سياسياً إذ يغير من معطيات المفاوضات الحالية على الأرض. المكسب الثالث هو الحصول على الأسلحة والذخائر بعد قطع الإمدادات، وهنا قد تكون الرسالة هي: إما الحفاظ على خط الإمدادات أو تعويضه داخلياً.
لا تستغل النصرة وجود انقسامات في جبهة أحرار الشام فحسب، بل تستغل أيضاً تلك المقدرة “الشرعية” على تبرير حربها. النصرة، شأنها شأن جميع التنظيمات المتطرفة، تملك المقدرة على التكفير وعلى سحب البساط الأيديولوجي من تحت مقلب الاعتدال. لا ننسى هنا أن النصرة لم تُفتِ بجواز قتال داعش، وهذا وإن كان له سبب سياسي يتعلق على الأرجح بوجودهما معاً ضمن لائحة الإرهاب إلا أنه يذكّر بالمرات التي لم تتورع فيها النصرة عن قتال فصائل تُصنّف معتدلة بذريعة أو أخرى. في المقابل، لا تملك التنظيمات “المعتدلة” خطاباً تكفيرياً يؤهلها لقتال المتطرفين على أسس شرعية، بل على العكس من ذلك لطالما ظهرت الإسلام المعتدل بمظهر الضعف الفكري أمام نظيره الراديكالي، بعدّ الأخير أكثر جذرية وأمانة للنص الإسلامي. فضلاً عما سبق، دائماً أدت النكسات التي أصيب بها الإسلام السياسي المعتدل، أو المرات التي استُهدفت فيها تجربته، إلى تقوية الإسلام الراديكالي على حساب صورة الاعتدال، مع غياب التساؤل دائماً عما حققته التنظيمات المتطرفة من إنجازات!
بالطبع، كما في كل حدث مشابه، لا يُستبعد أيضاً وجود رسائل إقليمية وراء هجوم النصرة على أحرار الشام، مثلما لا يُستبعد أن يكون قصف النصرة من قبل قوات التحالف في هذه التوقيت رسالة أخرى. في كل الأحوال يخطئ من لا ينظر إلى الحرب بمنطقها الخاص، وبعداواتها غير المعلنة، وحروبها الداخلية التي قد تتقدم على الحرب الأم. بالتأكيد يخطئ أكثر من يقرأ كل ذلك بمنطق الثورة، متناسياً أن الجولاني وأخوة المنهج “يتعففون” حتى عن تسمية “سوريا” التي تُنسب إليها الثورة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :