عنب بلدي – خلود حلمي
“كنت متعبًا جدًا من الطريق والضرب القاسي الذي تعرضت له… عندما توقفت سيارة (الزيل) بجانبي، حاولت أن أسند رأسي إليها لأستوعب قليلًا ما حدث. كنت أعتقد أنه عندما يقع أحدهم بقبضة الجندرمة (حرس الحدود التركي)، تحدث إساءات بسيطة ثم يعيدونه إلى المعبر، لم أكن أتخيل هذا الحجم من الإهانات والضرب“. هكذا بدأ محمد (26 عامًا) الذي هُجّر من أرضه بريف دمشق ووصل إلى إدلب منذ أشهر قليلة، بسرد قصة رحلته إلى تركيا، والتي كانت “كابوسًا مرعبًا“.
مع وصول الدفعات الأخيرة للمهجرين قسريًا إلى إدلب، صيف 2016، ازدادت حالات التهريب إلى الأراضي التركية عبر مهربين ووسطاء، همهم الأول كسب أكبر قدر من أموال المنهكين بسبب الحصار والنزوح. ومحاولات التهريب هذه نادرًا ما تكون ناجحة، وعلى الباحث عن حياة جديدة أو لقاء أهله أن يحاول مرارًا وتكرارًا.
تحاول عنب بلدي في هذا التحقيق، مقاطعة قصصٍ لسوريين حاولوا عبور الحدود التركية، أبرزها قصة الشاب محمد، الذي رفض نشر اسمه الكامل حفاظًا على أمنه، وتتبّع خيط القضية من لحظة عزمهم التوجه إلى الحدود وحتى نجاحهم في الوصول إلى تركيا، أو فشلهم والعودة مجددًا إلى سوريا.
محاولة التهريب الأولى
المكان: خربة الجوز
التاريخ: 15 كانون الأول 2016
الوسيط: أبو رامي
الحساب: 450 دولارًا منها 25 لـ “فتح الشام”
محاولة التهريب الأولى لمحمد كانت في قرية خربة الجوز، في ريف إدلب الغربي ، بواسطة “أبو رامي”، الذي قيل عنه إنه من أفضل الوسطاء و”ابن حلال”، مقارنة بغيره.
المهرّب شخصية مجهولة لا يتعامل مع الناس مطلقًا، يستلم محاولي اللجوء من منزل الوسيط، والكلفة تقدّر بنحو 450 دولارًا أمريكيًا.
المهرب يتعامل مع “فتح الشام“
يقول محمد “كان الكلام عن الخروج عبر طريق سهل جدًا، ويحتاج إلى مشي يقارب الساعة ونصف. وصلنا إلى خربة الجوز، حوالي الساعة الثالثة مساءً. وقفنا على حاجز لجبهة فتح الشام، قطعوا وصلًا بقيمة 25 دولارًا عن كل شخص، وانتظرنا في منزل المهرب حتى الساعة الرابعة والنصف”. ويضيف “عندما عدت مساءً، جاءت دورية لفتح الشام وبحوزتها تقرير كتبه أحدهم أن شخصًا خرج ضمن مجموعة التهريب ببلاش (مجانًا) دون كرت لفتح الشام”.
وتأكدت عنب بلدي من هذه المعلومة من أكثر من شاهد حاولوا العبور من خربة الجوز، لكنّ من بينهم من قال إن الجبهة تتقاضى 50 دولارًا عن كل شخص.
ويتابع محمّد “عند الساعة الرابعة والنصف، جاءت سيارة كيّا مازوت كبيرة مسرعة، والوسيط والمهرب بدأوا بالصراخ: يلا وعالسريع. ومن قلب الزحام، صعدت إلى السيارة لأكتشف أنها مليئة بالناس”.
كانت السيارة مغطاة بـ “شادر”، سارت بضعة أمتار وتوقفت فجأة. سمع الشاب لاحقًا أن المهرب ارتأى أن السيارة تتسع للمزيد واضطر الراكبون للالتصاق ببعضهم، ولم تعد السيارة تتسع لأحد، ثم مشت ربع ساعة تقريبًا وتوقفت في المكان المخصص للعبور سيرًا على الأقدام.
“هناك رأيت الكثير من الناس، شبابًا ونساءً وأطفالًا وختايرة (مسنّين)، كنا حوالي 80 شخصًا من حلب وحمص وريف دمشق وحماة وريف حماة وريف حلب. ويجب علينا مشي أكثر من ساعة في طريق جبلية وعرة، زادها المطر صعوبة، والناس بدأت تتعثر وتقع أرضًا. استرحنا مرة واحدة عشرين دقيقة، ثم تابعنا المسير بشق الأنفس، والمهرب يوحي لنا أن نهاية المسير قد اقتربت وأننا سنسير لساعتين في أقصى تقدير”.
استغلال للأطفال والمهرب “يراقب”
ويذكر محمد أن المهرب يستغل مجموعة من الشباب الصغار تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عامًا، إذ يصل المهرب إلى نقطة معينة ويقسّم الناس إلى مجموعات، من ستة إلى سبعة أشخاص، ويبدأ بتسمية كل مجموعة مع “فلان” من الشباب الصغار، وكل مجموعة تذهب من جهة ويبقون على مقربة من بعضهم البعض قرابة عشرين مترًا بين كل فتحة للتهريب، وهنا يتوقف المهرب عن المسير “ويراقب الطريق”.
“كنا نسير مع الفريق والطريق صعبة للغاية، مرتفعاتٌ قاسية ونزلات منحدرة جدًا، فجأة وصلنا إلى (طلعة) صعبة وعالية بارتفاع يقارب 150 مترًا. وصرخ المهرب: اركضوا عالسريع. بدأ الناس بمحاولة الصعود بأقصى سرعة ممكنة، قلة منهم استطاعوا الصعود بينما لم يتمكن كثيرون من ذلك”.
في نهاية الطريق الجبلي يوجد طريق معبّد وفيه مخافر “الجندرمة” وآلياتها تنظّم دوريات على طول الطريق.
تمكّن محمد وعدد من الشباب من الوصول إلى الطريق المعبّد بسرعة مقبولة بينما لحق بهم الآخرون بعد دقائق متلاحقة. على مد نظره، تراءت القرية التركية، صغيرة جدًا وبعيدة. وكان عليهم السير في طريق منحدر. عندما وضع محمد قدمه في أول الطريق، زلّت وسقط قرابة 50 مترًا، أحسّ بتشنج في قدمه ولم يتمكن من الحراك، وكان متعبًا ومنهك القوى وثيابه متسخة بالوحل. حاول الاستراحة حتى يتمكن من السير بعدها وهو يشعر أنه لن يتمكن من متابعة الطريق، فالقرية تبدو بعيدة جدًا، في الوقت ذاته، كان يرى آخرين يسقطون من المنحدرات واحدًا تلو الآخر من فتحات التهريب الأخرى.
عناصر الجندرمة.. إهاناتٌ وسرقةٌ موصوفة
“سمعت صوت رصاص في الهواء وصراخ. حاولت متابعة السير لكن قدمي كانت متشنجة ولم أتمكن من المشي عدة أمتار، وخلال لحظات وصل إلي عناصر (الجندرمة) بكامل سلاحهم وعلى الطريق سياراتهم تلتقط من يصل إليهم من الدفعة”، يقول محمّد، مضيفًا ”فوق رأسي يقف جنديان وآخر بعيد عنا قليلًا، يحمل أحدهم مسدس (ميكاروف) روسي، والآخر بندقية (إم 16) أمريكية، وأجبروني على الرجوع بلغة الإشارة”.
بات الطريق أصعب، فعلى الشاب صعود المنحدر، استجمع قليلًا من قواه وبدأ الصعود، والجندي الذي يحمل البندقية الأمريكية يدفعه بسبطانة بندقيته.
وبحسب رواية محمد، أخرج أحد الجنود عصًا وبدأ بضربه على قدمه مع كل خطوة يخطوها، وعندما تعثر، أتى آخر بأخمص بندقيته وضربه على ظهره، بينما قام آخر بركله على بطنه حتى ينهض، وكلما نهض محمد ضربه جندي على قدمه بضربات قوية. وخلال صعوده، رأى جنودًا آخرين يضربون أشخاصًا كانوا قد قبضوا عليهم أيضًا.
ويقول “لن أنسى ما حييت منظر امرأة تحمل ولدها وجنود الجندرمة يضربونها… كان ألمي كله بكفة، وحرقة قلبي لرؤية منظر تلك السيدة بكفة، ناهيك عن كبار السن والأطفال الذين أجبروا على الصعود تحت الضرب”.
عندما وصل محمد والآخرون، كانت سيارة “الزيل” بانتظارهم مع عدد من الجنود الأتراك وخلفها كانت مدرعة مثبت عليها رشاش دوشكا، وتمكنوا من القبض على كافة محاولي التسلل، باستثناء ستة شباب وصلوا قبل محمد.
“عندما أسندت رأسي إلى السيارة، ضربني عدد من الجنود حتى وقعت أرضًا، ثم أوقفوني وقادوني إلى نقطة مراقبة، وتابعوا ضربي بالعصا على قدمي حتى وقعت مجددًا. ثم ضربوني حتى أنهض، أدخلوني وجلست هناك وأنا أقول في نفسي سيخرجونني مع البقية بعد قليل ونعود إلى سوريا. خلال لحظات وصل إلى النقطة ثمانية جنود، ضربوني من كافة الاتجاهات ثم فتشوني وأخذوا مني الموبايل، كنت اشتريته مؤخرًا بأكثر من 500 دولار. ثم أخذوا مني 700 دولار أمريكي، ورموا 15 ألف ليرة سورية في وجهي. كنت في قمة التعب والعجز عن أيّ حركة، ليكملها الجندي بضربي بأسفل مسدسه على رأسي، ففقدت الوعي والتركيز”.
ووثقت منظمة “هيومان رايتس ووتش” انتهاكات من قبل “الجندرمة” بحق لاجئين حاولوا الوصول إلى تركيا، في تقريرٍ لها في أيار 2016، بينما قتل 11 شخصًا في 5 كانون الأول من نفس العام، بحسب ما رصدت عنب بلدي.
أعاد الجنود أغراض محمّد الشخصية المتبقية إلى حقيبته، ثم وضعوا “الطماشات” على عينيه، ووضع أحد الجنود المسدس في فمه وأمروه بالسير، وفق قوله، مضيفًا “كنت أشعر أن نارًا اشتعلت في قدمي من شدة الضرب. وخلال سيري قام أحدهم بإلباسي حقيبتي، وآخر وضع شيئًا ما في جيبي. سمعت أحدهم يقول: سوري.. سوري، وآخر ركلني على ظهري ووقعت على الأرض بلا توازن وشعرت بأنني سقطت قرابة 60 مترًا وصوت ضحكاتهم في أذني”.
لا يعير عناصر الجندرمة بالًا لـ “قانون الحماية المؤقتة” الصادر عن البرلمان التركي، في نيسان 2013، وأقرت تفاصيله بقرار مجلس الوزراء في تشرين الأول 2014.
ويقضي القانون بتأمين الحماية لكل من يهاجر من بلاده ويلجأ إلى تركيا أو الحدود التركية، لظروف تهدّد حياته وتمنعه من العودة إلى بلاده ويشمل زوجته وأولاده.
كما يقضي بمنح اللاجئ حق البقاء في تركيا، إلى أن يقرر بنفسه العودة إلى بلده دون أي إكراه.
كان الظلام قد حلّ، المطر ينهمر، تتخلله زخات ثلج خفيفة، جرّ محمد نفسه في الطريق باتجاه ضوء خافت من بعيد، وقدماه لا تكادان تسعفانه، سار مسافة ساعتين في الطريق الجبلي إلى أن وصل إلى بيت الوسيط، أعطاه مسكنًا وأمضى الليلة في منزله.
“خلال ليلتي تلك عند الوسيط، لم يتوقف عن استقبال مكالمات من زبائن جدد، ويقول لهم: إي أخي طريق آمن وسهل من شوي قطعت 6 أشخاص”، يقول محمد “إلا أنه لم يذكر أبدًا ما حصل للسبعين شخصًا، الذين تعبوا وضربوا وعادوا أدراجهم خائبين”.
في الصباح الباكر، خرج محمد إلى الطبيب، أعطاه أدوية للرضوض وأخبره أنه سيتعافى بعد 15 يومًا.
محاولة التهريب الثانية
المكان: حارم
التاريخ: 29 كانون الأول 2016
الوسيط: أبو جميل
المهرب: أبو أحمد
الحساب: 550 دولارًا تدفعهم عندما تصل إلى الريحانية.
قبل بدء رحلة التهريب، قال “أبو أحمد” لزبائنه “الطريق سهل، مسافة مشي لا تتجاوز نصف ساعة، تضع السلّم على جدار الفصل بين سوريا وتركيا بارتفاع ثلاثة أمتار.. بعده يوجد خندق تنزل إليه باستخدام السلّم وتأخذه إلى الجانب المقابل، تخرج وتركض 200 مترٍ، وستجد سيارة تنتظرك، لقد أصبحت في تركيا بأمان”.
ويضيف “تبعد الجندرمة عنك 300 متر… يستحيل اللحاق بك، سيطلقون النار في الهواء، ويستحيل استهداف أحد.. لا تخف، ستصل”.
أخبر الوسيط محمد أن يلتقيه في منطقة الدانا، وسيجد في المكان الفلاني ميكرو أبيض بستارة خمرية اللون على الشباك. ولكن عندما وصل، اكتشف أن الميكرو الذي يتسع لـ 11 راكبًا، قد امتلأ بحوالي 16 راكبًا.
وصل الركاب إلى منزل الوسيط في حارم حوالي الساعة الخامسة مساءً، وانتظروا حتى الثامنة.
مجموعة خبيرة بالتهريب و“جدار الفصل” عائق
“كنا مرتاحين لأننا حوالي 23 شابًا، دون نساء ولا أطفال ولا ختايرة، باعتبارهم عنصرًا معطلًا بالطرق الجبلية الصعبة وبالقفز والهرب”.
في هذه المرة، كان لكل الشباب في المجموعة محاولات عدة للهروب إلى تركيا، معظمهم كانوا قد خرجوا من حصار حلب ويريدون الذهاب إلى أهلهم في تركيا، والبقية من مناطق مختلفة، أحدهم يحلم بإكمال دراسته وآخر يريد الوصول إلى مكان زوجته وأطفاله، وآخر يبحث عن فرصة عمل.
أمضت المجموعة الوقت في الحديث عن قصص المهربين وطريقة تعاملهم وكيف كانوا “يصنعون من البحر طحينة”، وكأنهم يتحدثون عن رحلة سياحية وليست رحلة تهريب.
عند الثامنة، ازدحم المكان، وأصوات “يلا بسرعة وعالسريع” تملؤه.
في الخارج، كانت سيارة “كيا مازوت” كبيرة بانتظارهم، بداخلها يوجد سلّمان ونساء وأطفال وشيوخ. كان الوسيط قد وعد الشباب سابقًا بعدم وجود نساء وأطفال وكبار سن، أخبرهم فقط أن هناك “صبية” مع زوجها ولن يعرقلوا المسير. استمرت السيارة بالسير لمدة ساعة كاملة في الليل والبرد، وأصوات بكاء الأطفال تداخلت مع سعال كبار السن.
وصلت السيارة إلى مكان قريب من الجدار، والتقت المجموعة بأخرى فيها شباب ونساء وأطفال وكبار سن، ليصل العدد الكلي تقريبًا إلى 70 شخصًا بدأوا بالسير قرابة ساعة.
تعمل السلطات التركية على بناء جدارٍ عازلٍ على طول حدودها مع سوريا، البالغة 900 كيلومتر، ومن المتوقع أن ينتهي بناؤه في نيسان المقبل، وتقول إنه لزيادة التدابير الأمنية، في وجه الجماعات “الإرهابية”.
كان محمد يحمل طفلًا عن والدته تارة، وأخرى يساعد عجوزًا أثناء سيره لأن الأرض زراعية وموحلة. بحلول الساعة العاشرة ليلًا، جلست المجموعة وأخبرهم المهرب أن ينتظروا قليلًا، بدأ بإجراء عدد من الاتصالات ثم تحدث عبر جهاز اللاسلكي ليعود بعدها ويخبرهم بصوت منخفض: “أمورنا تمام، رح نمشي بسرعة باتجاه الحيط الي بيبعد عنا 100 متر، فورًا منحط السلم أول شخصين بينزلوا بياخدو السلم وبحطوه عالحيط التاني، وبين ما ينزلوا البقية بكون الوضع جاهز ليمر الكل”. كان محمد سابع شخص على السلم، وعليه أن يقفز مسافة مترين ونصف المتر ليصل إلى الأرض.
يقول محمد “معظم الناس وقعوا وأصيبوا بأذى. بدأ بعض الشباب مساعدة النساء والأطفال بينما حمل آخرون السلم وركضوا ليقطعوا خندقًا أرضيًا في منحدر وعر، والأرض وعرة جدًا والتراب ناعم يجعل الحركة شبه مستحيلة”.
بعد أن صعد الشباب من الخندق، اكتشفوا وجود أسلاك شائكة تحوي العشرات من الشفرات الحادة، قفز أوّلهم وتبعه الآخر، وكان محمد بانتظار شابين للقفز أمامه عندما بدأت الجندرمة بإطلاق النار في الهواء، ليتفاجأ الجميع أن المسافة التي تفصل بينهم وبين محرس الجندرما لا تتجاوز 40 مترًا. وفي لحظات وصل الجنود إليهم.
تمكن 31 شخصًا فقط من العبور، من ضمنهم رجلان تجاوزا الخمسين من العمر، اثنان منهما فقط تمكنا من الوصول إلى تركيا.
“بدأت الجندرمة بتجميعنا وضربنا وأخبرونا أن ننبطح على الطين، حسبما فهمنا من لغة الاشارة، قاموا بتفتيشنا، لم يأخذوا شيئًا هذه المرة عدا الدخان وعدة أشياء بسيطة مثل بطاريات الموبايلات. بقي يحرسنا أربعة عساكر ورجع البقية إلى نقاطهم”.
وبعد ساعة من الانتظار والتوتر، وصلت سيارة “زيل” عسكرية ونقلت المحتجزين إلى معسكر للجندرمة. يقول محمد “هناك التقطوا صورًا لنا، بقينا قليلًا ثم أخذونا إلى ملعب كرة سلة مسوّر وله باب حديدي وفي داخله خيمة بحجم ثلاثة أرباع الملعب”.
ويتابع “الصدمة الأخرى كانت عندما دخلنا إلى الخيمة، فوجئنا بوجود 300 شخص من سوريا والعراق ألقت الجندرمة القبض عليهم، خلال محاولتهم الهروب إلى تركيا”.
معسكرٌ “لا إنساني” للاحتجاز
داخل الخيمة، التي امتلأت أرضها بالطين، والهواء يدخل من أسفلها، حيث لا فرشات للجلوس عليها ولا بطانيات تقيهم البرد، تكدّس الناس فوق بعضهم، نساء يرتعدن من الخوف والبرد وأطفال يبكون، وكبار السن يكاد يغمى عليهم. كل شخص جلس على حقيبته، والجميع يجلسون بثياب مبللة، وبدأ المحتجزون بمواساة بعضهم: “بكرة الصبح بيرجعونا على سوريا، كلها كم ساعة وبتمضى”.
هناك داخل الخيمة، أخبر رجل عراقي، برفقة زوجته وبناته الثلاث، محمد أنه مضى عليهم داخل الخيمة ثلاثة أيام ولم يخرجوا في هذا الصقيع ولا وجود لمكان تجلس عليه مع كل الوحل والمياه. كما أخبره أنهم حصلوا خلال هذه المدة على علبة جبنة من عشر قطع وست قطع خبز.
سمح الجنود خلال هذه المدة للنساء والأطفال بالخروج إلى المرحاض مرتين يوميًا، بينما أجبر الشباب على قضاء حاجتهم خارج الخيمة في العراء. وكان الجنود يفتحون لهم صنابير المياه ساعتين في اليوم فقط للشرب وغسل أيديهم. وبجانب الخيمة، سلة امتلأت بحفاضات الأطفال تنبعث منها رائحة كريهة.
كانت الساعة الواحدة ليلًا، الجو كئيب جدًا والعساكر يدخلون إلى الخيمة، يأخذون بعض الشباب “للسخرة”، إما لتعبئة مياه لهم، أو لتنظيف مقراتهم أو جلي الأواني.
بعد ساعة تقريبًا، وصلت دفعة أخرى مؤلفة من خمسين شخصًا تقريبًا، من بينهم الشابان اللذان تمكنا من القفز، وظن الجميع بأنهم وصلوا إلى تركيا. كان الدم يسيل منهم وثيابهم ممزقة، فالمسافة التي قفزوا منها كانت مرتفعة جدًا وفي أسفل الجدار هناك أسلاك شائكة بشفرات حادة، حاولوا الوقوف وتجاوز الشريط، وتابعوا مسيرهم قرابة نصف ساعة ليتفاجؤوا بالجندرمة بانتظارهم على الطرف الآخر، وكان مصيرهم الخيمة ذاتها.
الساعة الرابعة فجرًا، الصقيع يكتسح المكان، لا مدفأة ولا فرشات ولا بطانيات، ثياب كل من كان في الخيمة مبللة، وبدأ المطر بالهطول وتسربت المياه إلى داخل الخيمة. عشرات الأطفال يبكون من الجوع والبرد. خرج بعض الشباب من الخيمة وطلبوا من الجنود أي شيء يأكله الأطفال، أو على الأقل بطانيات لتدفئتهم. وكان جواب الجندي بلغة عربية مكسرة: “ما في، ما في.. ما في”.
أمضى محمد وقته بالاستماع لقصص الناس من حوله، والسبب الذي دفعهم للهروب إلى تركيا رغم العناء والتعب. ما أجمع عليه الجميع أن المهرب وعدهم جميعًا بأن الطريق سهل ومن المستحيل أن يقعوا في قبضة الجندرمة.
وتراوح المبلغ المدفوع عن كل شخص ما بين 400 إلى 700 دولار. بعض المهربين أقنعوا الناس بأن هذه المجموعة ستخرج بـ “إذنٍ” من ضابط تركي وبالتالي سيكون الأمر بغاية السلاسة.
إلا أن الجميع وقع في قبضة الجندرمة واجتمعوا في خيمة قذرة شديدة البرودة، في طرفها أسلاك شائكة وظلام، وعلى الطرف المقابل تلوح مدينة الريحانية التركية بأضوائها المشتعلة. وبقي الناس في الخيمة بانتظار باصات ترحيلهم إلى سوريا، التي قد تصل بعد أربعة أيام أو أكثر.