عنب بلدي – عبادة كوجان
تتجه الأوضاع الأمنية على الحدود الإدارية بين محافظتي درعا والسويداء نحو انهيار أمني، وحجب متبادل للثقة بين أهالي المحافظتين الجارتين جنوب سوريا، جراء استمرار عمليات خطف متبادلة لعصابات مسلحة، بغية تحصيل ملايين الليرات السورية.
لم تعد قضية الاختطاف بقصد السلب خافية على أهالي المنطقة الجنوبية، فالشريط الإداري بين المحافظتين (درعا والسويداء) كان شاهدًا على عشرات الحالات خلال الأعوام الأربعة الفائتة، انتهت معظمها بتدخل وجهاء المنطقة أو الاكتفاء بدفع “الفدية” المالية المطلوبة.
حادثتان متشابهتان تصعّدان التوتر
تنقل عنب بلدي حادثتين، وفقًا لمعلومات خاصة حصلت عليها من مصادر مطّلعة من السويداء ودرعا، عززتها صفحات وحسابات متطابقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
مطلع كانون الثاني الجاري، وحينما كان عباس فارس زين، المزارع الثلاثيني من بلدة “عرى” في ريف السويداء الغربي، يباشر عمله اليومي في أرضه الزراعية بمنطقة “سمر” إلى الغرب من “عرى”، أقدمت مجموعة مسلحة على اختطافه في وضح النهار.
ردًا على ذلك، أقدم ذوو المخطوف على اختطاف 13 شخصًا من محافظة درعا، إلى جانب شخصين من عشائر البدو في منطقة عرى، في محاولة للضغط على الخاطفين، ليتصاعد التوتر على الحدود الإدارية بين المحافظتين وتصبح منذ ذلك الحين منطقة أشبه بالعسكرية.
في 16 كانون الثاني الجاري، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي تسجيل مصور لعباس زين، وهو يتلقّى تعذيبًا وتهديدًا من خاطفيه، وبدت آثار التعذيب ظاهرة على يديه وساقيه، لتشير مصادر مقربة من عائلته أن الخاطفين طلبوا فدية مالية تقدر بـ 20 مليون ليرة سورية لإخلاء سبيله.
على مقربة من حاجز بلدة المزرعة في ريف السويداء الغربي، اختُطف العنصر في “اللجان الشعبية”، باسل شكيب الحلبي، 29 عامًا، من قبل مجموعة مسلحة اقتادته إلى ريف درعا الشرقي، وتحديدًا بلدة ناحتة، وفقًا لمصادر عنب بلدي، وذلك الاثنين 16 كانون الثاني.
طلب خاطفو الحلبي مبلغ 50 مليون ليرة سورية، فردّ أقارب الشاب باختطاف 25 شخصًا من أهالي درعا، معظمهم من بلدة الغارية الغربية، واحتجاز 30 سيارة تعود ملكيتها لأهالي المحافظة، في الفترة الممتدة بين 16 و18 كانون الثاني، كرد فعل مشابه لما قام به أقارب عباس زين.
الملايين من جيوب أبناء درعا
تخضع محافظة السويداء لسيطرة النظام السوري، عدا عن أراضٍ في الريف الغربي تنشط فيها عشائر “البدو”، بينما تخضع مساحات واسعة من محافظة درعا لسيطرة المعارضة السورية بمختلف تسمياتها. في حين يحتفظ النظام السوري بنصف مساحة المدينة بشكل تقريبي، وعدد من المدن والبلدات في الريف الشمالي والأوسط. |
اللجوء إلى الخطف كرد فعل مماثل، ومقابلة الإساءة بإساءة أخرى “ليست من شيم أهالي سهل وجبل حوران”، كما أنها “تقوّض العلاقات المميزة بين الأهل والجيران”، هي وجهة نظر أبو راغب نصر، معلم المدرسة في ريف السويداء الغربي، لكنه طرح سؤالًا واضحًا لعنب بلدي “كيف كان للعوائل استعادة أبنائها من العصابات، وهم لا يملكون قيمة الفدية؟”.
قدّم أبو راغب مبررًا وصفه سابقًا بـ “غير الأخلاقي” لإقدام ذوي مختطفي السويداء على اختطاف عشرات الشباب من أبناء درعا، وإطلاق سراحهم مقابل مبالغ مالية، تستخدم لاحقًا لتغطية قيمة الفدية المطلوبة لاستعادة أبنائهم، وهذا ما حدث فعلًا.
عاد عباس زين إلى منزل ذويه، الخميس 19 كانون الثاني، بعدما جمع أقاربه المبلغ المطلوب منهم من ثمانية محتجزين من أهالي درعا في عرى بريف السويداء، بواقع مليوني ليرة سورية لكل محتجز، ليكون المبلغ الإجمالي 16 مليون ليرة، دفعت لخاطفي عبّاس، والذي أسعف إلى المستشفى الوطني في السويداء مباشرة، نظرًا للتعذيب الذي تعرّض له.
أطلق سراح عدد من محتجزي درعا في عرى، لكن أربعة أشخاص بقوا هناك بينهم طفل يبلغ 15 عامًا، كما أكدت المصادر، ذنبهم الوحيد أنهم لا يملكون مالًا يحررون من خلاله أنفسهم، ودون مبادرات من وجهاء المنطقة لإغلاق هذا الملف.
ذات الطريقة اتبعها آل الحلبي في بلدة المزرعة لإخلاء سبيل ابنهم باسل، فجمعوا مبلغًا ماليًا تفاوتت قيمته وفقًا للمصادر، بين عشرة ملايين و50 مليون ليرة، من محتجزي الغارية الغربية لديهم، ودفعوها للخاطفين، فأطلق سراح باسل شكيب الحلبي ظهر الخميس أيضًا، مقابل الإفراج عن بعض مختطفي درعا في المزرعة.
وأشارت المصادر إلى أن عددًا من المحتجزين في المزرعة، هم من أهالي بلدة “علما” في ريف درعا، أخلي سبيل بعضهم لقاء مبلغ 1.7 مليون ليرة لكل فرد منهم، إلا أن آخرين مازالوا محتجزين لعدم تمكنهم من تسديد المبالغ المطلوبة منهم، كذلك فإن عددًا من أهالي السويداء مازالوا مختطفين من قبل عصابات باتت تمتهن تجارة البشر على ما يبدو.
لا حلول في الأفق القريب
لا حلول حاسمة للحوادث المستمرة منذ عام 2012 وحتى اليوم، وفق ما تظهر المعطيات الميدانية، إذ تتشابك الحدود الإدارية الطويلة بين المحافظتين وتتعقد مسألة السيطرة العسكرية فيها، بين فصائل “الجيش الحر” والعشائر المنتشرة من جهة، واللجان “الدرزية” وميليشيات “الدفاع الوطني” من جهة أخرى.
طلب أبو راغب نصر من الإعلام “المستقل”، وفق تعبيره، إضفاء توصيف منطقي للحالة بعيدًا عن المسميات والميول، وقال “ميليشيات تحمل أسماءً لا تعد ولا تحصى في درعا، بمسميات وانتماءات مختلفة، دون مظلة سياسية أو دينية أو قضائية تضبط حالة التفلت، يقابلها زعران جندتهم فروع الأمن بالأسلحة، ويقودهم فكريًا مشايخ دروز يرتبطون فعليًا بالحكومة، والتي أراها الرابح الأكبر من الحالة الأمنية المتفاقمة”.
واعتبر أبو راغب أن “أسّ المسألة هو غياب الرجل الرشيد في السهل والجبل”، في وقت باتت “الملايين تعمي بصيرة الشباب المتفلت”، مشددًا على أن الحلول تكمن في تشديد القبضة الأمنية من كلا الجانبين “دار العدل كممثل للجيش الحر، ومشايخ العقل ذوو السمعة الطيبة، وحدهم من يستطيع ضبط المسألة، ولن ينجح الطرفان دون تنسيق وثيق بينهما”.
دار العدل.. بين زعران درعا وشبيحة السويداء
وتحدثت عنب بلدي إلى الشيخ عصمت العبسي، رئيس محكمة “دار العدل في حوران”، منددًا بعمليات الخطف والاغتيال “هي مدانة شرعًا وقضاءً”، وأضاف “أصدرنا قرارات إحضار بحق بعض الخاطفين الذين تمكنّا من الحصول على أسمائهم، لكن المنطقة التي ينشطون فيها وعرة وبعيدة نوعًا ما عن المحكمة المركزية، وتسيير الأرتال نحوهم لا ينفع في ظل هروبهم المتكرر، وهناك مكافآت مالية لمن يدلي بمعلومات عنهم”.
ورأى العبسي أن التنسيق مع وجهاء السويداء لن يؤتي أكله، مؤكدًا أن “هناك تواصلًا مع أكثر من شخص من وجهاء في السويداء… كنا نتمنى منهم عند حدوث حالة اختطاف لأحد أبنائهم، ضبط الشباب وعدم الرد على الخطأ بمثله… هم رأوا أننا تعاملنا بشكل جدي مع الموضوع، أعطينا مهلة للخاطفين وخلالها سيكون هناك اقتحامات، ومازال المتهمون ملاحقين”.
وأكد رئيس أعلى سلطة قضائية في درعا “المحررة” عدم وجود استجابة من وجهاء السويداء، وتابع “إذا كان هناك سيئون في درعا فلا يتحمل كل أهالي المحافظة أعمالهم المشينة، أصبحنا اليوم بين مطرقة زعران درعا وسندان شبيحة السويداء”.
تغيب التغطية الإعلامية والحقوقية في سوريا عمومًا، عن مثل هذه الحوادث المتكررة، وتبقى حكرًا على وسائل التواصل الاجتماعي في المحافظتين، لتضفي زخمًا تصعيديًا ودفعًا باتجاه العنف للرد على الاختطاف المتبادل، وهو ما يزيد من تعقيد هذا الملف واستمرار فصوله للعام الخامس على التوالي.