هجرة العقول السورية أم خلاصها؟

  • 2017/01/22
  • 1:00 ص

إبراهيم العلوش

تتناول وكالات الأنباء، وصفحات التواصل الاجتماعي المختلفة، أخبار الإبداعات السورية في تركيا وأوروبا، وفي مختلف أماكن النزوح والهجرة، واستقبل عدة قادة عالميين المبدعين السوريين تكريمًا لهم.

لم تكن تلك الاستقبالات مراسم للشفقة على السوريين، ولا مجرد استقبالات بروتوكولية باردة، بل هي تكريم لاستيقاظ العقول السورية التي كانت موؤودة تحت ماكينات وأجهزة الاستبداد الهائلة.

فعبد الرحمن الأشرف، مثلًا، ابتكر نظام بث للإنترنت قد ينافس “واتساب” في اعتماده على الشبكات الضعيفة، أو قد يرفده للانتشار أكثر في المناطق الفقيرة والمحرومة من الإنترنت، مثل بلدان العالم الثالث، وسكان القرى النائية، والعاملين في الأنفاق والمتنقلين في “المتروات”.

وقامت السيدة زينة عبود بالطبخ لملكة هولندا، إذ أطعمتها الأكل الحلبي اللذيذ، رغم أنها غرقت بالبلم، وعاودت العبور بعد رحلة تهجير مأساوية قبل سنة واحدة فقط من وصولها إلى هولندا.

وصار المهاجر الأكثر قدمًا، السوري رونالدو مشحور، أحد أهم خمسين شخصية عربية بسبب إطلاقه لشركة “سوق. كوم” التي تعتبر ابتكارًا تجاريًا وعلميًا سبّاقًا في العالم العربي، وصل تقييمه إلى مليار دولار، وهو الشخصية السورية الوحيدة في تلك القائمة.

هذه أمثلة بسيطة من الابتكارات والإبداعات السورية التي تتفتح وتبدع، وسيكون المستقبل ملكها، وحتمًا سنجد المزيد من الشباب يبدعون في عالم الفن، والأدب، وبرمجيات الكمبيوتر، واللغات، وما إلى ذلك من مجالات الابتكار.

الهجرة والغربة التي عاناها السوريون تعيد تشكيلهم، وتطلق مواهبهم، وتحولهم من مجرد رعايا في دولة الاستبداد إلى مبدعين وفنانين ومفكرين وعلماء وتجار كبار، فيما احتكرت أجهزة النظام عقول مؤيديها وشبيحتها، ليستهلكوا مواهبهم الشخصية في الوشاية وكتابة التقارير، وإيقاظ غريزة التوحش، والاستزلام، وتبرير البراميل المتفجرة، ومناقشة أسرار عبقرية بشار وماهر الأسد، والنمر، وجميل حسن… وما إلى ذلك من صنوف التلفيق والانحطاط، التي لن تنتج إلا المزيد من الدمار، والخراب العام والخاص، فدماء الشهداء ستطارد كل من ساهم بسفكها، وستخنق حياته وحياة من صفّق له وتحولها إلى جحيم.

كانت سوريا الأسد مقبرة للمواهب، وكان الاستبداد والاحتكار اللذان مارستهما عائلة الأسد، وأجهزة القمع على السوريين، بمثابة حريق مستدام في العقل والإبداع السوري، حيث اصطف أرذل الناس، وأعنفهم، وأسوأهم، لقيادة أحسن الناس، وأكثرهم إبداعًا وقدرة.

عشرات ألوف المعتقلين السوريين تم وأدهم أحياء منذ الثمانينيات، فقد دمّر التعذيب والسجن عقولهم وشخصيات الكثير منهم، كما انعكس على عائلاتهم وأطفالهم الذين تحولوا من مشاريع بشرية قادرة على العطاء والإبداع إلى مجرد منتظرين لآبائهم ولذويهم المعتقلين، الذين يمضون عشرات السنين في المعتقلات من أجل ترسيخ حكم حافظ وبشار ومن سيأتي بعدهما في الحكم من تلك العائلة التي حولت سوريا إلى مزرعة خاصة.

وفي ظل حكم هذه العائلة هاجرت الكفاءات السورية إلى مختلف جهات العالم، وخاصة إلى الخليج والأردن ولبنان، لتعمل تحت شروط قاسية، تخنق الإنسان وتحيل إبداعات الكثيرين منهم إلى رماد، ولا يستطيع السوري إلا أن يستمر بالعيش وأن يعيل بعضًا من أهله الذين يرزحون في ظل الفشل الاقتصادي المستدام في سوريا الأسد الكسيحة، ورغم كل ذلك أثبتوا جدارتهم وأمانتهم وقدرتهم على الابتكار والتجديد.

أجل لقد تم وأد السوريين أحياء في ظل هذا النظام، الذي كشّر عن أنيابه أخيرًا بكل وحشية، ودمّر سوريا بمعونة عسكرية إيرانية وبقصف روسي يعادل، حتى اليوم، عدة قنابل نووية.

في مقابلة تلفزيونية، قال الدكتور برهان غليون بعد زيارة لسوريا قبل الثورة، ملاحظة مهمة: السوريون يركضون من مكان إلى مكان ويركبون التكاسي، والسيارات الخاصة ويتسببون بازدحامات مرورية خانقة، كل ذلك من أجل أن يوقّعوا أوراقًا ومعاملات عقيمة، لا تنتهي إجراءاتها أبدًا، ولا تنتج شيئًا ولا تتسبب ببناء شيء!

وهذا ما يحنّ إليه جماعة “والله كنا عايشين”.. نعم، “كنا عايشين” في الفراغ، والتكرار، والقبول المستدام للمراوحة في المكان، في أجواء معقمة لا تخترقها عوامل الإبداع والابتكار وإعادة التفكير، فأجهزة القمع والمراقبة والتعذيب كانت تؤلف جدارًا سميكًا يحتل العقول ويحرس الاستقرار الذي يشابه استقرار المقابر.

العقول السورية اليوم بدأت تتفتح رغم المأساة الكبيرة، وصار السوري المتوسط يلمّ بلغة أجنبية واحدة على الأقل، وقد تمكن الكثير من الشابات والشبان من إتقان أربع لغات، وصار السوري يفهم عادات البلدان والمجتمعات الأخرى، ويستفيد من أفكارها ومن طرق إدارتها. وصار الكثير من الأوائل في مدارس وجامعات المدن والبلدان هم من السوريين.

ففي تركيا مثلًا، صار الطلاب السوريون شبكة معلومات وترجمة وتحفيز ومساعدة لكل طالبٍ يدخل إلى الجامعات التركية الكبيرة والصغيرة، وصارت المحاضرة تترجم إلى العربية بعد ساعات فقط من إلقاء الدكتور التركي لها.

العقول السورية استيقظت بعد سبات طويل، ولم يعد أمامها من منفذ إلا الابتكار والإبداع في مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهها، سواء على الصعيد الاقتصادي وتأمين لقمة العيش، أو على صعيد الأفكار التي تضع السوريين أمام مهامهم في إبراز أنفسهم وإبراز إمكاناتهم، وسيكون حقل بناء سوريا وإعادة إعمارها، بعد الخلاص من هذا النظام الاستبدادي، بمثابة برج بابل للثقافات واللغات والابتكارات، والتي ستبني بلدًا جديدًا خاليًا من فيروس الاستبداد الذي استنبت كل هذا الخراب، وكل هذا التطرف والإرهاب.

الإبداعات السورية ليست مجرد موضوع دعاية وتلميع، فهي تتفتح كل يوم في نشرات الأخبار، وفي حياة المدن والقرى التي يسكنها السوريون، وهذه الإمكانات لن تكون بخدمة الاستبداد الذي خسر مرتكزات وجوده، ولن تفلح محاولات إعادته أبدًا، فالسوري خرج من قمقم الاستبداد المظلم، ولن يقبل به بعد اليوم، سواء استمر على شكل طغمة مخابراتية عسكرية، أو حاول التجدد على شكل فاشية دينية وطائفية.

مقالات متعلقة

رأي

المزيد من رأي