حذام زهور عدي
قليلٌ ما نصف ما حدث بحلب ومدن القلمون والغوطة، وما يحدث الآن بوادي بردى، بأنه جنون العصر، فلا الكلمات، مهما أوتيت من البلاغة والفصاحة، قادرة على التعبير عما حدث ويحدث، ولا أظن أن القرن العشرين بحروبه كلها شهد ما نشهده اليوم من الكوارث السورية، وآخرها وليست النهاية، اقتلاع شعب بأطفاله ونسائه من جذوره وإلقاؤه في مهب الرياح.
وبوقاحة منقطعة النظير يقف الإيراني مصاحبًا الضابط السوري ليحتفلا بالنصر. لم تزكم أنوفهم رائحة الجثث ولا حدقات الأطفال التي كانت تستغيث بخالقها علّه يخسف الأرض بهم ويخلصهم من عذاب النيران الروسية.
وإذا كان الجنون –كما يقال- سبعين بابًا، فإن أوسعه تلك الاحتفالات بالنصر وتوزيع الحلويات على المارة والرقص والمسيرات المنظمة، التي أراد السيد الهمام أن يقدم للعالم مادة دعائية تغطي جنون إجرامه ووحشيته.
هل خطر ببال الراقصين فوق الجثث البشرية أن يتساءلوا: على من انتصروا وكيف كان انتصارهم، ومع من يهللون؟ هل تساءلوا يومًا عن علاقتهم بمفهوم اسمه الوطن وببلد اسمها سوريا؟ وهل انتبهت غالبية نخبتهم المثقفة إلى أنّ هؤلاء الذين يقتلون ويشردون هم أهل سوريا وبناة حضارتها قبل أن يوجد التاريخ؟ هل فكَر أحدهم لحظة أن الوصول إلى الكراهية القصوى يعني شيئًا واحدًا أن لا وطن لهم بعد الاحتلال الذي يرقصون له ولا سوريا ولا مستقبل أمن أو سلام؟ أيراهنون على أن تنسى الأجيال القادمة ما حدث؟ إذا كان وليهم الفقيه يقاتل بعد خمسة عشر قرنًا باسم ثأر الحسين، ومجرمهم بوتين يستعطف الكنيسة لتبارك وتعيد للحروب الصليبية حضورها بعد عشرات القرون، ويرى في سوريا ثأره من أفغانستان والشيشان بعد 35 سنة، وإذا كان قائدهم وأبوه قمع شعبه باسم المظلومية التي لحقت بهم أيام العثمانيين، وتلك الدعاوى كلها زيف لتغطية مصالحهم التي يدعونها، فهل يمكن لدماء الأطفال وعيونهم أن تنسى أو تسامح من حوَّلها إلى أشلاء بشر؟
أيظن أبطال الموالاة أن الهاوية ماتزال بعيدة عنهم طالما ينعمون مع أطفالهم بالسعادة والهناء؟ كيف لهم أن يصفوا شركاء الوطن بالوسخ الذي نظفوا سوريا منه، ويتقبلون ببساطة المرتزقة شذاذ الآفاق “الفاطميون والزينبيون و…”؟ أولئك أصحاب رقي وحضارة وأهل الوطن هم الأوساخ؟ وأن من استقدمه سيدهم لاحتلال البلد، التي أقسم يومًا على حمايتها، لقاء بقائه على كرسي الحكم، لن يغدروا به حتى لو قبل أن يكون كخيال المآتة يفزعون به الشعب المقهور دون أن يملك إلا الخشب والورق وإمكانية تحريكه بحسب الوجهة التي تناسب مصالحهم. كأنه ومن حوله لم يقرؤوا التاريخ ولم تمر بهم مئات القصص عن الحكام الجبناء أمثالهم، الذين استدعوا الغريب لحماية عروشهم وكانوا أول ضحاياه بعد تمكن، دون أن يذكرهم أحدٌ من رعاياهم بغير اللعن والسباب. ألم يقرؤوا التاريخ العباسي أو الأندلسي أوغيرهما من تواريخ البشرية؟ ألم يروا بالطريقة التي تعامل بها بوتين مع أسدهم، إشارة للاحتفاظ به كورقة مساومة ليس أكثر؟
أبعدَ هذا مصالحة وطنية ومسامحة! وهل أبقوا على وطن للمصالحة؟ أم أنه في احتفالات النصر أسسوا لكراهية لن تُمحى مدى قرون ولدويلات المسخ التي لن تذوق طعم الاستقرار إلى ما شاء الله؟ وهل درى قائد محور الممانعة والمقاومة أنه قدّم أفضل نموذج وتبرير لإسرائيل لتهجير ما تبقى من الفلسطينيين بالضفة والجليل؟ وإذا كان السلف شارون أجاب من عتب عليه في دخوله لبنان وتهديم بعض أبنيتها: “لِمَ تلومونني؟ أما رأيتم كيف دمر حافظ الأسد حماة، أنا لم أفعل عشر ما فعل”، فما الذي يمنع اليوم نتنياهو أن يفعل عشر ما فعله الابن بسوريا؟ وهل أصبح اقتلاع البشر في القرن الواحد والعشرين وقذفهم بفيافي المجهول سمة العصر وعنوانه؟ أي هرطقة تلك؟ طريق القدس معبدة بجثث السوريين ومآسيهم، أم أنها طريق إسرائيل للتمدد على أرض لم تخسر من أجلها نقطة دم، ولم تتحمل أي مسؤولية إنسانية تجاهها ولم تحلم يومًا بها؟
المضحك المبكي أن مسرحية المصالحة مايزال وزيرها يتحدث بملء الفم الذي حشاه سيده بما اعتاد من هرطقات يُعمي بها عيون العالم من حوله.. ولو كان لهذا الوزير (القومي السوري) ذرة من مبدأ لوقف على الأقل مناديًا سوريا أن تحيا لا أن تُدمَر.
مصالحة! إنها الهاوية أيها الأوغاد الراقصون، وصعودكم ليس إلى الحافة بل إلى الأعماق، هنيئًا لهذا السقوط الذي لن تصلوا بعده حتى إلى أطرافه، هنيئًا إلى السيد حسن الذي سيلعنه التاريخ ما بقي تاريخ في الوجود، فطريق القدس تحوّل إلى نهر دماء سيغرق فيه قبل أن يرى مئذنة الأقصى بآلاف الكيلومترات، لقد خدعنا مرة ولن يستطيع الخداع مرة أخرى.
آه يا سوريا، لم يعد للتحليل والهدوء معنىً، لقد تحطمت الصور السورية كلها، ولن يعاد سبكها طالما لاتزال وحوش العصر ممعنةً في جنونها، سعيدةً بألا أحد يضع لها الخطوط الحمر التي توقف ذلك الجنون.