عنب بلدي – العدد 84 – الأحد 29-9-2013
منار الشامي
لا يظننَّ ظانٌ أن الدخول في غياهب الغربة هو أمر حسن يدعو إلى الفرح والمرح وتناسي القروح والجروح. فقد تعاورت السوري في غربته أمور وأشياء قد غفل عنها الآخرون، وظنوا به غير ما فيه، وحسبوه يعيش في سعة ودعة واعتقدوا أنه يعيش في رحلة سياحية يطوف الأرض ويجوب القفار في هناء و رخاء، ولم يعلموا أن هناك أمورًا نغصت عيشته وأرقت ليله وسودت نهاره وأبكت عينيه. وهذا حال السوريين في عدد من الدول العربية التي آوت من هاجر إليها منهم ، وإني في طرحي هذا لا أتحدثُ عن حال السوريين في المخيمات، فتلك مأساةٌ أخرى وحكايةٌ قاهرة لا سبيل إليها الآن، وسأبسطُ القول في كل من لبنان ومصر وتركيا وليبيا والأردن لعلي أظهر شيئا من معاناتهم .
ففي لبنانَ يجتمع الغلاء الفاحش في استئجار البيوت ومصاريف المعيشة وتأتي أجور العمل البخسة لتزيد الطين بِلةً، ففي حال تم قبول السوري في عمل ما فسوف يتقاضى نصف راتب العامل اللبناني، فقط لأنه سوري. وقد علم الناسُ تركيبة الطوائف في لبنان وتبعية بعضٍ منها للنظام، فترى السوريين قد نزلوا في البقاع وطرابلس، إذ لا يأمن السوري على نفسه من الخطف إن وطِئ مناطق الشيعة، وقد علم الناسُ تسليم البعض للنظام السوري ، فضلا عما يتعرض له السوري من حقد اللبنانيين عليه وكرههم له بسبب تاريخ الجيش السوري «المشرّف» الذي فظع فيها قبل أن يخرج منها مذمومًا ملومًا. وقد علمتُ أن بعض الأسر السورية قد رجعت أدراجَها تحت الضغط المادي الذي ينوءُ بكاهلها وتجاوز طاقتاها وحمّلها ما لا تُطيق.
ومن الأمور المضنية في لبنان غلاءُ المواصلات، فالأطفال لا يكملون تعليمهم لأحد السببين : إمّا لأن القوانين اللبنانية تقوم بإرجاع الطفل سنة إلى الوراء، وإمّا لغلاء المواصلات. ومن فاجعة الأحزان تعامل المشافي مع السوريين إلا ما رحم ربي؛ فهل يتخيل عقلٌ بشريٌ أن امرأة تعاني مخاض الولادة ويقولون لها عودي بعد ثلاثة أيام، هل تجردت الإنسانيةُ من قلوبِ هؤلاءِ البشر؟
وفي مصرَ حيثُ الفقر المدقع وعنوان البطالة والأجور الشحيحة التي لا تكفي للمعيشة والإيجار لو أراد أحدهم أن يستأجر بيتا بمفرده، فتجد في البيت الواحد الشباب ذوي العدد يتعاونون فيما بينهم على دفع الإيجار، حتى قال لي أحدهم عن راتبه: (راس بزأ) أي لا يبقى معه شيء يدخره وإنما يعمل بأكله وشربه فقط؛ إضافة إلى ما يتعرض له السوريون من احتيال المصريين وتحكمهم بالأسعار والأعمال، ولذلك اتفق السوريون على أن يقضوا حوائج بعضهم لئلا يتحكم بهم أحد، ولعل منطقة 6 أكتوبر خير دليل على ذلك حتى أصبحت مكانًا سوريًا بامتياز وأطلق عليها دمشق الصغرى، وما يضر ذاك غير أنه قد أذاب قلبي ما سمعته عن زواج السوريات من المصريين بمهر قدره خمسمائة جنيه، أي أقل من مئة دولار أحقاً عبادَ الله أنهُ حدث؟ أبلغ الفقرُ والعوزُ أن تلجأ السورية لمثل هذا؟ وإن كان الزواج سترًا لا عيبًا فإنه لا يتم بهذه الظروف وبهذه المحنة، ولعلها تكون سُبةً في وجه المصريين إلى يوم الدين.
وفي تركيا فوالله إن لها فضلًا سابقًا وأياديَ سابغة لا ينكرها إلا مُجحد، ويشار إليها بالبنان على سبقها للخير والمعروف، غير أن الغلاء الفاحش فيها قد أثقل كاهل السوريين هناك من غلاء المعيشة والاستئجار، ولا يخفى على أحد في الفترة الأخيرة ما يتعرض له السوري من مضايقات قد تكون مبررة على خلفية التفجير الأخير في الريحانية، فكما تصدعت الأبنية تصدعت القلوب بين الشعب التركي وضيوفه السوريين، وهو تصدع قد يكون مبررًا .
وفي الأردنَ فلا يخفى على أحد أن الأردن بلد ضريبي فقير بالموارد الطبيعية، ويحتاج فيه السوري إلى تصريح للعمل، وهنالك نقص في التمويل إن لم يكن معدومًا. وراتب السوري يبلغ نصف راتب الأردني أو ثلثه والسكن ليس مؤمنًا والحديث يطول. وقد سألت أحد السوريين عن الوضع هناك فكان جوابه أن الموضوع لا يحتاج إلى شرح فهو مزرٍ جدًا.
وفي ليبيا فإني لا أبخس الناس أشياءهم فلعلها تكون خير بلد للسوريين في فرص العمل والأجور المقبولة نظرا لغناء البلد اقتصاديا، غير أن المعاناة هنا من نوع آخر. ومنها صعوبةُ معشر الليبيين فالحياة في المجتمع السوري مختلفة تماما عن طبيعة الحياة في ليبيا، وطريقة التعامل تختلف، فيجد السوري، إضافة إلى مرارة الغربة، صعوبة في التأقلم مع الشعب الليبي ومع طباعه المختلفة كليًا؛ ومن أصعب الأمور أن تتكيف في مجتمع لا تنتمي إليه وأن تطوع نفسك مضطرًا للتعايش فيه .
ومن الأمور التي تؤذي السوريين بعضُ العبارات التي يُسمعها أحيانًا الشباب بغير دراية حيثُ يطالبونهم بترك أهليهم والرجوع إلى سورية للقتال، وقد علموا أنهُ لا طاقة لهم بالحروب وحملِ السلاح، ومن نافلة القول إنهُ إذا جاءك ضيف فتكرمه ولا تكون عبئا عليه، وقد علمتُ أن أسرة من حي القابون الدمشقي قد صُدتْ ومُنعتْ من الدخول إلى مدينة مصراتة لحجج واهية سخيفة، واضطرت للذهاب إلى طرابلس في طريقٍ وعرٍ صعبٍ وايم الله لو جاءنا يهودي بأسرته يطلب اللجوء لآويناه وأعطيناه صدر البيت.
ومن الأمور الأخرى التي عُرِفتْ هنا هي ضيق النفس وانقباضها من السوريين وحسدهم لهم لأن السوري معروف بنشاطه وعمله فيرونه يعمل ويكسب ويركب السيارات فلا تطيب أنفسهم بهذا ولا يرضونه، و يرجع هذا لفهمهم المنقوص للدين، وقد بلغ بأحد الليبيين أن أحرق سيارة سوري لمرض في نفسه عقيم .
ناهيك عن انعدام الأمن والأمان و عمليات السطو والسرقة، وقد أخبرني أحدهم عن توقيف شاب سوري من قبل شابين ليبيين ادعوا أنهم من الشرطة – والشرطة منهم براء – وقاموا بسلبه ماله ونقاله ودخانه، وغيرها من الأمور التي لا يؤتى على ذكرها في هذا المقام.
وإني في كلامي هذا لا أنتقص من تلك الدول ولا أعيبُ عليها ولا أغمز من شأنها، فإن لها فضلًا وخيرًا، غير أني أذكرُ ما يعانيه السوري في غربته فإنهُ السفرُ ومأساةُ الغربة.