نزوحٌ فراتي
سرمد الجيلاني
لا أحد ينظر لي، عفوًا، ألمح تلاقي ابتسامتين رافقتني العبور، ألمح وجهًا اتصلت أذناه بابتسامة عريضة، يضحك ويشهق، وكأنها أوكسجينه الأول، رغم أن عمره يتجاوز الخمسين.
لم أحمل أي جواز سفر، ولا إثباتات شخصيّة، ولا حقائب، ولا أي شيء، ورغم ذلك كانت المخاطرة وكأننا نعبر من دولةٍ إلى دولة، وعلى الرغم من أننا لم نعبر الشريط الحدودي، اضطررنا للاستعانة بمهرّب، لنخرج من أرضنا.
كنت وحيدًا، ولم يرعبني ليل الصحراء، البرد، وأصوات الأطفال والنساء وكبار السن، لا استعجال الناس كي يسبقونا، يظنون أنهم إن فعلوا ذلك سيصلون قبلنا. حتى مساعد المهرّب لم ينتبه أنني أشعلت سيكارةً في الظلّام، أنارت لي ألف درب، بعد انقطاع عامين، ولم أفهم كلّ كلام المهرّب وهو الذي يصرخ مطالبًا الالتزام بالتعليمات عند رؤية أي ضوء من بعيد، من يذكر أصلًا التحذيرات والموت يتراقص أمام عينيه. ولم أخف.
فكرّت بالأعداد الكبيرة، كلّ الناس الذين أرادوا العبور، طريق الخلاص، فكرّت بالهواء دون قيود، بالقوانين الجائرة التي هربنا منها، حتى بردّة فعل زوجتي لو عرضت عليها شيئًا في السوق، لن أكون مجبرًا على التخمين بعد هذه الرحلة، لم يكن هناك حاجةٌ للتفكير بما نحن فيه، الهواء يقذفنا بين يدي الصحراء، يوقظني من أحلام اليقظة التي أُمنّي النفس فيها، وتخمد كل الأصوات في رأسي عند صرير أسنان الطفل في حضن أمه مرتجفًا، يلوكني بفكّيه.
لم استعجل كما فعلوا، كنت مطمئنًا أن مصيرنا واحد، نازحون، وهذا أبشع ما قد تواجهه في حياتك، ليس فكرة النزوح ما يؤرقني، ولكن نظرة الشفقة إليك كـهارب، لم تُخلق لنا، ألم تجلبوني إليكم؟ اجتمعتم مع الصدفة وحظي ومشاكلكم، وبقي داعش والنظام، ورحلنا نحن.
استغرب من أبي عدم تعليمه لي كيف أهرب من العيون التي تلاحقني، رغم أننا ولدنا نازحين منذ عشرات السنين، تبدّل احتلال الأسد باحتلال داعش، بدأت الأفكار تراودني بعد قرار أخذ استراحة، أعجز عن أخذ حبّة المنوم، لا أفعل أي شيء مجبرًا، ولو كنت أفعل لما افترشت الأرض الآن، بدأت بالذهاب والإياب علمًا أنني لم أتحرك من مكاني، تفاديت إزعاج الآخرين، خفت من هدم الآمال التي بنيتها طول الطريق، عدت مرارًا وتكرارًا ذلك المشهد، أمي وأبي، منزلنا، وأغمضت عيني حتى ظنّوا أنني ما عدت قادرًا على فتحهما، لم يعلموا أنني أحفظ في ذاكرتي ذلك المشهد، بالتفاصيل، لربما كانت نظرتي الأخيرة.
لم تعلم زوجتي حتى الآن لماذا طلبت منها الخروج فورًا، رغم أنني كنت متمسكًا بالفرات، وما زلت، رغم بعدي عنه، أتمشى عائدًا للمنزل، صبغوا الشارع بالأسود، حيث يخاف الخليفة من الأضواء، رائحة البارود فتكت بي، رغم أنني شممتها بعد انتشارها في الشارع، ما حال من أصابته الرصاصة؟، هل كان مهتمًّا برائحتها؟، بِركة دم، وجثّةٌ ملقيّة على الأرض، كان يرتدي مثل معطفي تمامًا، زادت دقّات قلبي، يُقال إنه لم يتجاوز الخامسة عشر، ولكنه أزعج أحد المقاتلين، “ومنذ متى كانت تهمة الإزعاج تؤدي للقتل؟” أظن أنه كان صوتًا داخليًا، ولطغيان صبيان الخليفة، خفت من سماعه، تنفست بصوتٍ أعلى، علّني لا أسمعني، حدّقت فيَّ سكينٌ قد رُميت بجانب الطفل، اقتربت أكثر، تنعكس فيها صورتي كلما اقتربت، ويتضاءل حجمي، أتضاءل، أتضاءل، أخاف، أمشي، أهرب، أنزح.
وصلنا إلى الشمال، الأمر أسهل مما توقعنا، لم يوقفنا أحد، لم يدققوا في وجوهنا، لم تستقبلنا مئات العيون المستنكرة والتي يتهمنا بعضها باحتلال المكان والهواء، بقيت مرتاحًا والتزمت بكميّة الأوكسجين المسموحة لي دون تجاوزها، حتى أنهم لم يفتشوا تحت جلدي، اكتفوا بقليلٍ من الجروح في يدي وقدمي كانت لتفتيش جسدي، لم يزعج أيّ فصيلٍ وصولنا، أسمع همهمة المرأة المنكسرة نفسها، وهي تأتمن طفلها الرضيع على سر، تحكي له عن الأيادي التي خرقت جسدها عابثة، تفتّش عن الأمور التي تخفيها، استحالة أنها لا تحمل شيئًا لتخفيه رغم أنها قادمة من “أراضٍ داعشيّة”، هي الفكرة التي يعتمد عليها ذاك المقاتل، لو كان بإمكانه تفتيش جسدها كما فعل بي، لن يتردد، ولكن رحمةً جاءت على شكل ورقةٍ من قائده أنقذتها وأدخلتها لأرضه، رغم أنها لم تكن كذلك، ولكنهم ألصقوا الهاء عنوةً.
لن أشغل رأسي بكل تلك الأمور، العالم سيكون أفضل، الدفء ينبع من دواخلنا، الجميع يحبّنا، هم يقومون بعملهم فقط، لا تخافوا لن نسرق أرض أحد، كان لدينا أرض، وفرات، ولكننا أردنا النجاة، هذا كل مافي الأمر، لا بد أن العالم دافئ ولكننا الصقيع، نحن نبرّد العالم، العالم… تبًا.
“ما بك؟ لماذا تصرخ؟”، لا شيء يا عزيزتي، كيف استطاعت هذه الحشرة الدخول إلى هنا دون تفتيش! لم ياخذوا إبرتها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :