يجب أن أقرّ بالقصور والاعتذار. تبيّن لي، بعد طول خازوق، أنّ السوري سليل الحضارات لا يعرف كتابة سيرته الذاتية. لقد ضمرت عضلات ذهنه الفكرية وقلّت عدّته، ونسي ولم نجد له عزماً، وعاد تحت كعب الصفر الحضاري.
السيرة الذاتية المقصودة، هي التي يشار إليها مختصرة في لغة العلوج الأفاضل “بالسي في”، واسمها في العربية: علم التراجم، وهو العلم الذي يتناول سير حياة الأعلام من الناس عبر العصور المختلفة. وهو علم دقيق يبحث في أحوال الشخصيات والأفراد من الناس الذين تركوا آثارا في المجتمع. وله أقسام: الترجمات على الطبقات، وعلى الحروف، وعلى الوفيات، وعلى القرون، وعلى البلدان..
السيرة الذاتية المعاصرة، عادة لا تتجاوز الصفحتين، يقدم فيها طالب العمل أهم المعلومات عن مؤهلاته وفروسياته ووثائقه، ولادةً، وتعلماً، وتزكيةً، ووقائع. وكتابتها في ألمانيا وبالألمانية أشقُّ من خرط القتاد، وقد طلبت من صديق سوري فلسطيني شاب أن يغيثني في كتابة سيرتي الذاتية، فاستنكر قائلاً:
كأنها المرة الأولى التي تكتب فيها سيرتك الذاتية؟
فعلا هي المرة الأولى يا أخي، يسأل وكأنه من كوكب جارهيد! لا سير ذاتية في سوريا يا صاحبي. السيرة، هي السيرة العامة، هي سيرة الوطن، هي سيرة الرئيس، وهي سيرة تجمع النقيضين؛ المعلوم والمجهول، المعلومات في سيرته مقتصرة على العظمة والنبوغ والفرادة، وأسرار حياته مجهولة مثل مثلث برمودا، مع أنّ الرئيس يوصف بالشفافية في التحاليل البلاستيكية. يمكن وصفه بالذات الرئاسية. سيرته كلها أسرار، يظهر على التلفزيون كثيرا، لكن ظهوره كظهور القمر في صفحة السماء، والقمر عال… هو مثل القمر يحتاج إلى رائد فضاء، وهو يشبه الشمس، من يقترب منها يحترق.
سأل: ألم تكتب سيرتك الذاتية عندما تقدمت للعمل، لا بد أنك عملت في سوريا؟
نعم عملت في شركة لصناعة العلكة، العلكة، أشهر صناعة سورية على الإطلاق في عهد الأسد الأب الصامد، المتصدي للشعب، ما من سوري إلا وعلك، وفي عهد الأسد الابن تحسنت صناعة العلكة الفموية، وصارت علكة بصرية، أقصد مسلسلات الفانتازيا التاريخية، التي صار مخرجها نائباً لرئيس مجلس الشعب الفانتازيا. ابتدع الأمريكان العلكة لتنفيس الغضب، أما “تنظيم النظام” فروّج العلكة كصناعة ثقيلة، وسلاح مقاوم. انظر إلى نجاح مسلسل قيامة ارطغرل في تركيا، الذي صار بطله رمزاً، وموسيقاه نشيداً، وقارنه مع ابن الوهاج في مسلسل الجوارح، الذي حلّ محل صقر قريش، وبنى مزة 86 بدلا من الأندلس، انظر ما حلّ بباب الحارة، الذي صار شباكا تدخل منه كل الكتائب والطغم والشراذم، لا تستغربنَّ أن يصير اسم “أبو عصام” الجديد، أبو عصام الأصفهاني أو أبو عصام أصغر شاماني!
سأل: كيف وُظفت إذاً؟
تمّ الأمر عبر الهاتف يا أخا الشام، تخرجتُ، وأرسلت الجامعة شهادتي إلى المخابرات، فقلّبتني المخابرات في الموازين، واختبرت ولائي بالنيران، فوجدتني مقبولاً، وقبلت بي موظفا عند الدولة. المخابرات هي التي تكتب السير الذاتية للرعية. هتفتْ للشركة، فقُبِلتُ طوعاً أو كرهاً، أي، عاطلاً مقنَّعاً. المهندس لم يكن يحق له أن يرى شهادته. الذريعة هي الحرص على الاستفادة من الطاقات والمواهب الوطنية، أذكر أنّ نائب رئيس الوزراء زارنا مفتتحاً أحد المشاريع، وكان يضع صمغ “الجلّ” على شعره، وقال: ستموتون هنا..ورب الكعبة هذا ما قاله لنا، سُجن لاحقا بتهمة الفساد.
بعد تولي الابن الوريث، طلع علينا الملقب بالأمل بالإصلاحات، فاستقصت الشركة عن موظفيها، فوجدتْ أن المهندسين في الجيل السابق ليس لهم وثائق، سأل الموظف: أنا لا أفهم كيف توظفتم في هذه الشركة، غريب!
عاش السوري في حقبة الأسد، التي توصف بالبعثية، وهي حقبة قبرية لم يبعث فيها سوى الأرذلين والسفهاء والمجرمين من القبور، عاش الشعب نصف مائة سنة من العزلة.
وجدت بعد النزوح إلى المنافي، أن معظم أصدقائي من الأطباء والمهندسين، وهم النخبة السورية، لم يكن لديهم ايميلات أو فايسبوك! بل إن ابني – وهو طبيب ومن الجيل الجديد، وله مهارات في الميديا أفضل من مهاراتي بكثير- لم يكن لديه حتى الأمس القريب صندوق بريد الكتروني! سألته عن السبب، فأجابني قائلا بجواب طيّر عقلي من راسي، كما طار عقل سميرة توفيق في أغنية” يا ويلي من الحب”: الفايسبوك يغني عن الايميل! علما أن الفايسبوك يقتضي إنشاء إيميل، لكنه يهمل عادة، ويرمى في البحر، فلم يكن حاجة للسوريين به. الايميل لإنشاء العشوائيات في ضواحي مملكة مارك.. السوري يتواصل مع الأهل والأصدقاء، فقط عبر الدردشة، وفي جعبة حمار الدردشة تُرسَل الملفات والمرفقات وسواها.
كان ابني مثل معظم السوريين، يغني نشيد الحلزون.
خرج من الصدفة في الغربة.
كنت قد قصدت صديقي في يوم العطلة لمساعدتي، هو يعيش في بيت مع أخيه، وابن عم لهما، رحب بي، واعتذر لتعطل حاسوبه، فتحت حاسوبي الذي كنت أحضرته معي. ضحك وهو يقرأ سيرتي الذاتية بالعربية، قال: هذا نص أدبي، وليس سيرة ذاتية.
يشَخّصَ من النظرة الأولى أعراض الكومبيوتر وعللهِ وأسقامه، قبل الرماء تملأ الكنائن، وقبل الكتابة يبرى القلم: اللاب توب تبعك مصاب بحمّى الفيروسات، ومليء بالملفات المندسّة التي تحتاج إلى استئصال وتهجير.. وتعويض ديمغرافي بالملفات المفيدة.
كان فارس أسرع السوريين في تعلم الألمانية والحصول على وظيفة في مكاتب ألمانيا الاتحادية. الفلسطينيون من أمهر العرب في الميديا. بدأ فارس الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما، يطهر الجهاز من الفيروسات المندسة، كان يصطادها قنصا بالملاقط الإلكترونية، فجأة صاح معتذرا: آسف قصفنا “الماذر بورد” الأموي بالغلط، نيران صديقة.
قلت: كل شيء إلا الجامع الأموي، الجامع الأموي هو الأمّة، هو “الماذر بورد”.
نهض وقال إنه سيقوم بعملية جراحية، ويعيد زرع كبد الملفات الماذر بورد. أيقظ أخاه وابن عمه اللذان ينامان في يوم العطلة إلى الضحى. بحث الثلاثة بحثاً في الشبكة عن أعضاء بديلة للأعضاء الإلكترونية “السوفت وير” التالفة، وخلال نصف ساعة كان الكومبيوتر قد صحا، هتف منتصراً: انظر!! وأشار إلى جرثوم الكتروني: هذا الخنزير، يحبُّ ملفات الوورد، ويدّمر الذاكرة
تحسرت على ذاكرة سورية التي التهمها الوحش غير الإلكتروني في نصف قرن وأتم الأبن ما عجزت عنه أنياب الأب..
قال: الجرثوم محاصر، هل تريد أن أحرقه بالبراميل على طريقة النظام، أم أذبحه بالسكين على طريقة داعش.
تعالى صوت قباع الخنزير وقضى محروقاً.
قال: يجب أن تغيّر برنامج الحماية، في جهازك مضاد الفيروسيات ضعيف العزائم، وسقفه واطئ، وجدران البرامج غالية في ألمانيا. سأحتال لك على الأمر. اتصل بصديق له في سوريا، واشترى “شيفرة” برنامج كاسبر، بالدين من أحد المعارف بخمسة يورو، وسعره في ألمانيا 25 يورو.. قال: وعندي برنامج التنصيب على قرص صلب، سأبنيه على جهازك، وأنصّبه ملكا يأمر وينهي ويعدم ويستأصل..
بدأ بمراسيم التنصيب الكاسبر المهرّب الرخيص، حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، ثم قال متنهداً وهو يتابع الأخبار: إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ…؟
لم أعرف هل يقصد الطغاة أم الغزاة؟ قلت: هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا….
قلت: اقترب أجل الجراثيم. رياض الترك- نيوتن الاحتجاز السوري- خرج من السجن بعد 17 سنة انفرادي، وخرج بعد كل ذلك الاعتكاف القسري بقانون الصفر الاستعماري. الدكتاتورية تحت الصفر.
وصلنا بعد ست سنوات من القتل إلى تخوم الصفر الاستعماري، نحن على بعد خطوات منه، بعد أن قدّمنا نصف مليون شهيد، وللأسف عندنا أكثر من استعمار: روسي، وإيراني، وذيول الدكتاتور، وأذناب الكتائب الطائفية، والجيش الحر العشوائي بنيرانه الصديقة… جاء الاستعمار، والاستعمار الإيراني أسوأ من الاستعمار الروسي، نحن على وشك أن نضع أقدامنا على عتبة الصفر الاستعماري يا أخا الشتات، لكنه استعمار مركب ومتعدد الرؤوس، وهذه مشكلة كبيرة..
ومن أسف أن الاستعمار القديم الذي كان يهاب المساجد ودور العبادة، ويتجنب اقتحامها، قد دمّرت، ودمّرت معها المشافي والمدارس وتراجم الرجال..
التاريخ يبكي مثل أبي يوسف: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ..