أصدر مثقفون سوريون ورقةً سياسيةً، تناولت مسار الثورة في السنوات الماضية، وما شابها من نواقص وعيوب، وأحاط بها من تحدّيات ومخاطر، ومورس عليها من تدخّل، واعتمده ممثلوها من مواقف، وتوفّر لها أو غاب عنها من مؤسسات وبرامج وخطط وقيادة ثورية، لو امتلكتها لتولّت توجيه خطاها بتبصّر وعقلانية، ولأمدّتها بمستلزمات النجاح، كتعزيز مواقع وأدوار حواملها المجتمعية، وتوحيد نخبها الثورية وتفعيلها، وإبعادها عن العسكرة القاتلة التي أخضعت السياسة لبندقيةٍ، قادها تمذهب قوّض هوية الثورة المجتمعية، فضلاً عن تنظيم مقاومتها، بما فيها إخضاع المقاتلين لقيادة سياسية، ينفذون خطها الاستراتيجي، وبرنامجها المدافع عن الحرية هدفاً وحيداً، لن يتم بلوغه من دون وحدة المجتمع والدولة، والبديل الديمقراطي وقيمه كالعدالة والمساواة، وتجريم نهج التأسلم الذي وزّع المواطنين إلى طوائف لا تنتمي إلى نسيج مجتمعي واحد، بل هي متعادية/ متنافية.
… وقد جاءت الورقة في وقتها، بينما تعلن قطاعاتٌ سوريةٌ واسعة من السوريات والسوريين انفكاكها عن مشروع التأسلم/ المتمذهب، وتمسّكها بالحرية هدفاً للشعب السوري الواحد الذي كان الحراك قد تبنّاه قبل أن يدمر النظام قطاعه المدني الحديث، ويُرغم، بعنفه المسلح وممارساته الطائفية، قطاعها الأهلي على هجر نهجها السلمي، وحمل السلاح دفاعاً عن نفسه، بينما ساعدت سياسات النظام الإجرامية تنظيم القاعدة على إبعاده عن مشروع الحرية وقبوله بالعسكرة والتمذهب والتطييف. في هذه الأجواء المعادية للثورة، تكامل عجز التنظيمات الفصائلية السياسي/ العسكري مع الانخراط الخارجي المتعاظم في الحرب، لتكون النتيجة إنزال سلسلة هزائم بـ”الثورة”، كان آخرها كارثة حلب التي كشفت فشل بنى الفصائل في التصدّي للأعداء أو الصمود ضدهم، وما يسم وعي أغلب قادتها من ضحالة، فضلا عن افتقارهم إلى العلاقات الصحيحة مع السوريين التي لو توفرت لهم، لما رفضوا عرضاً بإخراج مائتي عنصر فقط من جبهة النصرة إلى خارج المدينة، في مقابل بقاء قواتهم فيها، واستمرار مجلسها المحلي المنتخب في إدارتها، ثم وبعد إنجازاتهم في “ملحمة حلب الكبرى”، قبلوا بحماسةٍ خروجهم وخروج السكان، بشروط مذلة أجبرتهم على التخلي عن سلاحهم، وركوب باصات الأسد الخضراء، بشفاعة جيش روسيا الذي كانوا يعلنون، إلى ما قبل سويعاتٍ، تصميمهم على سحقه وإخراجه من سورية.
كانت هزيمة حلب سياسية أيضاً، وإلا لما انتقلت الفصائل من عداء روسيا إلى قبول خططها، بل والاحتماء بها، ومن الالتزام باولوية دور “الائتلاف” وهيئة التفاوض العليا في البحث عن حل سياسي، إلى شرعنة دورها هي جهةً تحل محلهما في هذا البحث. لا عجب أن أدّت فضيحة حلب إلى انفكاكٍ مجتمعي متزايد عنها، ومطالبتها بالخروج من المناطق المدنية، وتجدّد دور الشباب في تعبئة قدرات الشعب وراء مشروع الثورة الوطني/ الديمقراطي المعادي للطائفية، وحدوث استفاقةٍ وطنيةٍ يبشر استمرارها واتساعها باستعادة مرحلة الثورة الأولى، المجتمعية والسلمية، وتلاشي مرحلتها الثانية، المتأسلمة / المتعسكرة، جالبة الكوارث للسوريين.
تنضوي ورقة المثقفين في إطار محدّد هو: التصميم على تزويد الحراك بالبرامج والخطط والرؤى الاستراتيجية والتكتيكية التي سيحتاج إليها خلال تحوله المطلوب إلى ثورة على صعيدي السياسة والمقاومة، لم يمتلك ما يماثلها في المرحلة السلمية المجتمعية، ولعب غيابها دوراً خطيراً في انزياح التمرد نحو العسكرة والتمذهب والتطييف، ودورانه في حلقة مفرغة انحدارية الاتجاه. بهذا المعنى، هي ورقة أولى في مشروع سياسي/ فكري، يريد تزويد الحراك برؤية سياسية وعملية، يجنّبه امتلاكها الأخطاء التي يفيد منها عدوّاه: النظام وأتباع التأسلم المتعسكر المعادي للحرية. إذا كانت الورقة قد قدّمت جرداً أوليا لمسار الثورة ونقدته بموضوعية وعقلانية، فإن ما سيليها من أوراق سيذهب في منحىً مختلف، يمدّها ببرنامج وخطط تتيح، عند نقطةٍ معينةٍ، بلورة قيادةٍ ثوريةٍ يرتبط انتصار الشعب بها، كي لا يفتقر استئناف الحراك للطابع المجتمعي/ السلمي، ويخلو من نواقص مرحلة التمرد الأولى وعيوبها وشعبوياتها.
بهذه المقاصد، سينصبّ الجهد على بناء الوضع الذاتي للثورة الذي يتوافق وظروفها الموضوعية، ويفيد من إيجابياتها، ويستهدف إقناع الآخرين باستحالة تحقيق مصالحهم من دون قبول مطالب السوريين، وفي مقدمتها رحيل الأسد ونظامه، وقيام نظام ديمقراطي يضمن الحرية والوحدة للشعب السوري، وإقناعه أيضاً بأن فشل الحرية لن يكون كارثةً بالنسبة لسورية وحدها، بل سيكون كذلك بالنسبة لجميع شعوب وبلدان العالم، لن ينجو أحد من عواقبها الوخيمة.