عناء الأقنعة المزيفة
دعاء بيطار
أصبح من البديهي أن الكلام فيما هو مأمول شيء، والواقع التطبيقي شيء منفصل عنه تمامًا، فالجميع يستطيع أن يعتلي منبر الحديث في كل شيء وإبداء الرأي على وسائل التواصل والتنظير يمينًا وشمالًا، عما تعانيه الأمة من أزمات على جميع المستويات، لدرجة أن يشعر السامع أنه الأسوأ والأصغر حجمًا في هذا الكون، وأن يقول بينه وبين نفسه: طالما أننا رائعون جميعًا فمن أين تأتي قصص التفكك الأسري والخيانة وحوادث الاعتداء وسوء الأخلاق؟ ومن أين يأتي هذا الكم من الأزمات النفسية التي نسمع بها بين الوقت والآخر؟ والسؤال الأهم: طالما أن الجميع قادة على من حولهم فمن هم الرعية إذن؟
نعيش حالة من التيه وسط هذا العالم الكبير الذي حاكته شبكات التواصل، فحب الظهور أصبح سمة عامة في مجتمعاتنا، والذين لم يصابوا بهذا الداء ويتجنبون العدوى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ينظر إليهم عادة على أنهم كغثاء السيل، فلا بد أن تتكلم بالطريقة التي يريدها من حولك، ولا بد أن يعلو صوتك فوق الجميع حتى تحظى بالمكانة بينهم، فالكل يصمت عندما تصرخ لإثبات وجهة نظرك، ولا سبيل للإقناع إلا أن تتشبث برأيك، ولو خالفك كل من في الأرض والغلبة تكون من نصيب من يصمت آخرًا.
كثيرا ما يجول بخاطري وأنا أستمع إلى متناظرين محتدمين في النقاش إلى أعلى قمة، ماذا لو انكشف الستار عن قلبيهما الآن ورأى الجميع الحقيقة ومن منهما يتكلم انطلاقًا من تجربته وإيمانًا بفكرته، ومن منهم يردد ما حفظه دون وعي ولا تطبيق؟ كم من تلك الأصوات المرتفعة سوف يخفت لو رفع الله ستره عنه، وكم من تلك النفوس المتعالية سوف تخضع لو علم الناس ما يعلمه الله عنها؟
حال خشبة المسرح التي يعتليها البعض فقط لهدف الظهور بغض النظر عن المضمون تحجب شخصياتهم الحقيقية عن أنفسهم قبل أن تحجبها عن الآخرين، ليصبح التقمص والمحاكاة هو المسيطر على البعض، بالرغم من أن طبيعتهم التي خلقهم الله عليها أجمل وأدعى للقرب من القلوب والعقول فيما لو أتاحوا لها فرصة التحرر والانعتاق من عبودية الخوف من نظرة الناس، وأرجى لحصول الراحة النفسية من عناء تبديل الأقنعة والتفنن في تغيير الأصباغ والوجوه في اليوم أكثر من مرة بهدف الحصول على محبة وإعجاب الجميع على اختلاف أمزجتهم وثقافاتهم، فهو المستحيل الذي لم يحظ به أحد حتى الأنبياء والصالحين.
لا أدري لماذا يصر البعض على هذا العناء وهناك طريقة أسهل وأخف حملًا على صاحبها وعلى الآخرين، وتحقق ذات الغاية التي يسعى إليها الجميع، وهي الحاجة إلى التقدير والحب من الناس، وهي أن يراقب قلبه ونقاط تركيزه، فما يجول بداخله سيظهر على ملامحه وتصرفاته بشكل لا إرادي ويفهمه كل الناس على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم وأعمارهم.
خلاصة القول إن ما تعانيه مجتمعاتنا المتخمة بالمعلومات هو تطبيق ما يرد إليهم منها على كافة المستويات وليس كثرة المتحدثين والمتصنعين والمجادلين حولها، وشخص واحد يرى فيه الناس قدوة لهم بأخلاقه وسيرة حياته يصنع تأثيرًا أقوى من آلاف الخطب وملايين الأشخاص المتصنعين سواء في حياته أو بعد مماته.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :