إبراهيم العلوش
قبل الذهاب الى مفاوضات “أستانة” و”جنيف”، المزمع انطلاقهما تباعًا في الأيام والأسابيع المقبلة، لابد من التأكيد على الثوابت، والحفاظ على المؤسسات التي رسّخ أركانها باني سوريا الحديثة، القائد الخالد حافظ الأسد، كما يردد شبيحة النظام ومفكرو مخابراته.
لابد من الحفاظ على الجبهة الوطنية التقدمية وقوائمها التي تنظم الحياة السياسية في سوريا، والتي تتدخل في كل كبيرة وصغيرة من حياة السوريين السياسية، وعبر قوائمها تُزرع أجهزة المخابرات مخبريها، ومنافقيها، في كل مؤسسة سياسية أو نقابية أو شعبية، اعتبارًا من مجلس الشعب الذي أنتج نائبًا هبّ واقفًا ليخاطب بشار الأسد بمقولته الشهيرة: “قليل عليك حكم سوريا يا سيادة الرئيس، لازم تحكم العالم”.
ناهيك عن إرث عبد القادر قدورة بطل التوريث الدستوري، والقائد المزمن لمجلس الشعب المنبثق من قوائم الجبهة الوطنية التقدمية، حين كان كلبه، في مجاعة الثمانينيات، يكلف إطعامه أكثر من طعام موظف حكومي، كما قال الممثل محمود جبر في مجلس الشعب منقادًا خلف حسه الكوميدي الذي حرمه من الجلوس ثانية في مقاعد المجلس الوثيرة، التي تبعث على النوم والاسترخاء.
ولا بد من الحفاظ على أجهزة التعذيب والتحقيق التي أمسكت برقاب البلاد والعباد، وأحالت حياة كل من تسول له نفسه بالانتقاد أو المعارضة إلى رماد، أو إلى موقوف أبدي ما استمر حكم الأب القائد وورثته.
ولابد من الحفاظ على ثالوث عقيدة الجيش المتلخصة بشعار: قائدنا الى الأبد، سياسيًا، وبنداء: يا مدني يا كلب، اجتماعيًا، وبمعادلة: صفر الجيش ستين، علميًا، عدا عما أضاف وريثه الى تلك العقيدة من ملاحق كثيرة، منها ملحق الأسد أو نحرق البلد، وملحق البراميل المتفجرة، وملحق التعفيش الحلال، وملحق الاحتلال المشروع، وغيرها من الملاحق التي تنبثق من عقيدة الخيانة والغدر بالسوريين.
ولابد من الحفاظ على المستشارية الإيرانية التي هَدَت البلاد والمسؤولين، وأرشدتهم لكل ما فيه خراب وتدمير مقدّرات الشعب السوري، وصولًا الى التهجير الطائفي الممنهج لاستقبال مواكب المستوطنين الإيرانيين الذين سيحرسون الهلال الشيعي- الفارسي، الذي تعوّل عليه إيران للحفاظ على احتلالها لسوريا عقودًا مقبلة.
ولابد من الحفاظ على صحفنا القومية: تشرين، والبعث، والثورة، التي ظلت تمشي بطريقة (النظام المنضم) العسكرية والأمنية طوال عقود، ولم تخطئ ولو لمرة واحدة في مراسم تأليه القائد الخالد، وتقزيم من هم سواه من السوريين، واعتبارهم مجرد براغيث وجرذان بالمقارنة بعظمة سيادته!
ولابد من الحفاظ على سيخ الشاورما من المواد الدستورية التي تعطي الحقوق والصلاحيات للرئيس الفرعون، الذي يجمع بين ميزات البشر، وصلاحيات الإله الوثنية.
هذه بعض من المؤسسات التي حولت سوريا إلى غسالة أوتوماتيك جبارة، وصارت تدور بسرعة جنونية، لتفقد السوريين صوابهم من شدة القهر، وليخرّوا صرعى من عنف دورانها، ولتقذفهم إلى خارجها بكل وحشية وجنون.
هذه المؤسسات التي دمرت سوريا، ولم توفر حتى الشبيحة من عنفها ومن وحشيتها، هي إرث حافظ الأسد، الذي يفتخر به حتى ضحايا التشبيح من المؤيدين، ولابد من الحفاظ عليها من أجل أن تبقى سوريا الأسد مستمرة، وكل مفاوض يرفض هذه المؤسسات هو عدو لحافظ الأسد الذي يدير سوريا من قبره، عبر كهنته الذين كانوا يديرون غسالة الأوتوماتيك القاتلة التي ابتكرها.
فكيف ندمّر مؤسسات الأب القائد التي أنتجت رفعت الأسد صاحب سرايا الدفاع وبطل مذابح حماة، وناهب البنك المركزي، ومصطفى طلاس المفكر الكبير وصاحب الهكتار من الأوسمة والألقاب العسكرية، وعبد القادر قدورة بطل التوريث، وعبد الله الأحمر وعبد الحليم خدام، وعلي دوبا، ومحمد الخولي، وعلي حيدر، وشفيق فياض… وصولًا إلى تلاميذهم الذين يلخصهم ماهر الأسد الشخصية الشبح، ورامي مخلوف، وكذلك الدبلوماسي الكبير بشار الجعفري الذي يمزج البراميل المتفجرة بشعر نزار قباني، بلحن آيات الله المدهونة بالزرنيخ.
كيف نتخلى عن القصر الجمهوري الذي كلّف المليارات، وضاع فيه قانون التأمينات الاجتماعية أربعة عشر عامًا، ولم يجرؤ أحد على المطالبة به، بينما عندما ضاعت برقية تهنئة أمريكية بروتوكولية، على ذمة باتريك سيل مؤرخ عائلة الأسد، استعانوا بعمال البلدية لتعزيل القصر، واضطروا لإخراج حافظ الأسد منه حتى وجدوها، وتمكن موظفوه أخيرًا من الرد على الرئيس الأمريكي.
كيف نتخلى عن تاريخنا السياسي ووثائقه وأهمها خطابات حافظ الأسد التي تعتبر قممًا في الخطابات السياسية والقومية، وخاصة خطابه الشهير الذي أكد فيه أنه سيجعل من الجولان “وسط سوريا” (يعني كان يريد قبرص أيضًا، وليس فلسطين فقط)؟
وكيف نتخلى عن مئات المجلدات والموسوعات من خطاباته التي أسست هذا النظام، اعتبارًا من المجلدات الذهبية (هكذا قال الأسد) وصولًا إلى جبال الكتب المدرسية التي تؤلهه وتؤله وريثه، وآلاف الكيلومترات المربعة من الصور واللافتات المخزنة في المستودعات، وآلاف الأغاني القومية التي تجعله -ووريثه بعده- خالدًا، وما الناس إلا عبيد لخدمة عبقريته وعبقرية وريثه؟
أجل… هذه هي مؤسسات الدولة الأسدية التي أوصلتنا إلى هذه الحال، هذه هي المؤسسات التي يطالب بالحفاظ عليها منظّرو المخابرات ومستشارو التعذيب، والتي لا يمكن قبولها أبدًا، ولابد من القطيعة معها ومع تراثها الوحشي، وهذا الكلام موجه للمؤيدين قبل المعارضين، فدولة الأسد الفاشلة اقتصاديًا، وسياسيًا، وأخلاقيًا، ليست دولة جديرة بالحفاظ عليها، لأن ذلك يعني الحفاظ على القتل، والتدمير، والتشبيح، ومن ثم الحفاظ على التلفيق والنفاق والعيش في أوهام القائد صاحب القدرة الكليّة، والوجود الأبدي على كرسي الحكم، والذي يقابله الجلوس الأبدي للمواطن على كرسي التعذيب والابتزاز والتخوين.