جنوب السلسلة القلمونية الغربية، تكمن مفاتيح “كوثر دمشق وإكسير خلودها”، حيث ثالث المناطق الأخيرة الخارجة عن سيطرة النظام في “زنّار العاصمة”، إلى جانب الغوطة الشرقية وجنوب دمشق، بعدما أنهى ضباط الأسد عمليات تهجير قسري بمسمى “المصالحات” في غوطتها الغربية وريفها الشمالي، وفق خطط روسية خالصة. وادي بردى، أو براديوس (الفردوس باللغة الرومانية)، وفقًا لما وثّق المؤرخ الدمشقي ابن عساكر، هو المسمّى الجغرافي والإداري للمنطقة الواقعة جنوب مدينة الزبداني، وشمال غرب دمشق، حيث ينبع بردى، الشريان الحيوي لأقدم عواصم العالم، و”نهر الذهب” كما وصفه الإغريق.
“لا ورد لقومٍ إذا لم يعرفوا بردى”، قالها الشاعر الأموي جرير في مديحه للنهر “المقدس”، و”لا حياة لدمشق دون فيجتها”، عبارة أوضحتها معطيات الأسابيع القليلة الماضية، بعدما استهدفت طائرات الأسد نبع “عين الفيجة”، وأوقفت ضخ مياه الشرب نحو العاصمة، في مسعى للسيطرة على وادي بردى، وطرد “رافضي التسوية” إلى إدلب.
تمتد منطقة وادي بردى من المحور الجنوبي لمدينة الزبداني وبلدة مضايا، وصولًا إلى بلدتي الهامة وقدسيا على الأطراف الغربية للعاصمة دمشق، وتحتوي نحو 20 بلدة وقرية، تمتاز بطبيعتها الخلّابة ووفرة مياهها، باعتبارها تقع في وادٍ بين سلسلة الجبال القلمونية.تتبع قرى وادي بردى لناحية “عين الفيجة”، ويبلغ عدد سكانها نحو 76 ألف نسمة بحسب تصريحات رسمية لرئيس بلديتها عام 2014.
أبرز بلدات وقرى الوادي: هريرة، أفرة، سوق وادي بردى، برهليا، كفر العواميد، الحسينية، كفير الزين، دير قانون، دير مقرن، عين الفيجة، عين الخضرا، بسيمة، أشرفية الوادي، جديدة الوادي.
عين الفيجة، هي أكثر مناطق وادي بردى شهرة، وتحتوي نبع “الفيجة”، المغذي الرئيسي للعاصمة دمشق وضواحيها بالمياه الصالحة للشرب، ويتفجّر من سفح جبل “القلعة” بغزارة عالية تصل إلى 30 مترًا مكعبًا في الثانية، وتمتاز مياهه بالجودة العالية على مستوى العالم.
معظم قرى وبلدات وادي بردى تخضع لسيطرة فصائل المعارضة منذ عام 2012، باستثناء: أشرفية الوادي، جديدة الوادي، وقرية هريرة الخاضعة مؤخرًا لسيطرة “حزب الله” اللبناني.
شريان دمشق
يعتبر نهر بردى بمثابة شريان دمشق، فهو النهر الوحيد الذي يمر بها، مغذيًا البساتين والأراضي الزراعية على أطرافها، ومحققًا بذلك اكتفاءً زراعيًا “مرضيًا” إلى حد ما، عدا عن كونه المتنفس الوحيد لأبناء العاصمة، حيث أقيمت المنتزهات على جنباته ابتداءً من وادي بردى وحتى منطقة الربوة.
لكن، بغض النظر عن أهمية بردى، فللمنطقة وضع استثنائي كونها تحتضن “نبع الفيجة” المغذي الرئيسي لدمشق بالمياه الصالحة للشرب. ونسرد هنا لمحة تاريخية عن آلية سحب مياه النبع إلى المدينة، بحسب تقرير مفصّل أوردته “المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في دمشق”، عبر موقعها الإلكتروني.
اعتمدت دمشق منذ القدم وحتى أواخر العهد العثماني على مياه السيول، إلى جانب الجر اليدوي للمياه من بعض العيون الموجودة حول المدينة (عين الكرش- عين الفيجة- عين الزينبية- عين علي..)، أو من الآبار المحفورة في المنازل التي كانوا يستخرجون منها المياه السطحية الملوثة، أو بالاعتماد على مياه الأنهار التي كانت مرتعًا خصبًا لكثير من الجراثيم، إلى أن استقر الرأي في عهد الوالي ناظم باشا على إسالة جزء من مياه الفيجة إلى دمشق بأنابيب محكمة، وتوزيعها على مناهل منتشرة في أنحاء المدينة.
نفذت الدولة العثمانية مشروع جر مياه الفيجة عام 1908، وتوزعت مياه النبع على 400 “سبيل” منتشرة في أنحاء المدينة، تجري فيها المياه بمعدل ساعتين في الصباح والمساء، استخدمت للشرب حصرًا، مع الاعتماد على مياه الأنهار للأغراض المنزلية، وبقي الحال على ما هو عليه حتى عام 1932.
عام 1924 باشرت شركة “theg” الفرنسية بدراسة مشروع جر مياه الفيجة إلى منازل دمشق، وانتهى المشروع عام 1932، وتم تدشينه بعد إنشاء قناة جر من نبع الفيجة الى دمشق مكسوة بالبيتون، وثلاثة خزانات كبيرة، وشبكة مياه من الفونت تغطي معظم أحياء المدينة.
في العام 1966 بدأت محافظة مدينة دمشق بإعداد مخطط تنظيمي جديد للمدينة يلبي حاجتها التوسعية وتزايد عدد سكانها حتى عام 1984، وواكبت مؤسسة المياه إعداد المخطط التنظيمي الجديد وإجراء دراسة توجيهية لتأمين مياه الشرب للمدينة في ضوء المخطط المذكور، وساهمت في استثمار مياه عين الفيجة بالشكل الأمثل.
تقول “المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في دمشق” إن إمكانيات نبع “الفيجة” باتت عاجزة عن تلبية حاجات المدينة من المياه في المدى البعيد، وبدأت مؤخرًا بالتحري عن مصادر إضافية جديدة بالتنسيق مع مديرة “الأحواض المائية” في وزارة الري.
ثورة الوادي
المشاركون في المعارك ضد فصائل وادي بردى“الفرقة الرابعة” التابعة لقوات الأسد، والتي ترأسها اللواء ماهر الأسد
“الحرس الجمهوري” التابع لقوات الأسد، والمسيطر على تلال محيطة بالوادي “حزب الله” اللبناني، المهيمن على منطقة القلمون الغربي في ريف دمشق ميليشيا “الدفاع الوطني” المحلية، والتي تأسست عام 2013 ميليشيا “درع القلمون” المشكّلة من أبناء القلمون الشرقي والغربي قبل عامين |
لم تختلف الخطوط العريضة لانتفاضة وادي بردى ضد النظام السوري عن باقي مدن وبلدات الريف الدمشقي، فشهدت قرى الوادي مظاهرات شعبية في الأسابيع الأولى للثورة، وسرعان ما تحولت إلى صراع مسلح، أفضى إلى سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة في شباط 2012، مع إبقاء الورشات الفنية والمهندسين على رأس عملهم في منشأة “نبع الفيجة”.
في تشرين الثاني 2013، فرضت قوات الأسد والميليشيات الرديفة حصارًا كاملًا على منطقة وادي بردى والزبداني ومضايا شمال غرب دمشق، لتدخل هذه المنطقة منذ ذلك الوقت في دوّامة اتفاقيات تهدئة وخروقات متكررة، عنوانها الأبرز “الماء والسلام”.
تحتوي منطقة وادي بردى على عدد من فصائل “الجيش الحر”، أبرزها “لواء أبدال الشام”، “جيش تحرير الشام”، “جيش الإسلام”، إلى جانب “حركة أحرار الشام” وبعض مقاتلي “جبهة فتح الشام” على الأطراف الشمالية للوادي.
باشر النظام بمخطط عزل مناطق المعارضة في محيط دمشق، منذ مطلع عام 2013، من خلال فرض حصار على عشرات المدن والقرى، ثم إجراء مصالحات محلية منفصلة، كما حصل في جنوب دمشق ومعضمية الشام والتل وكناكر وقدسيا والهامة وغيرها، وهو ما انسحب على وادي بردى أيضًا، لتكون هذه المخططات بمثابة تقسيم المناطق المناهضة للنظام إلى “جزر” صغيرة يسهل السيطرة عليها.
حاولت قوات الأسد المدعومة بميليشيات “حزب الله” اللبنانية و”الدفاع الوطني” المحلية اقتحام وادي بردى مرارًا، إلا أن جميع المحاولات كانت تصطدم بحقيقة هيمنة الفصائل على السلاح الأنجع في المعركة، وهي “نبع الفيجة”، والذي عمدت الفصائل إلى وقف تدفقه نحو دمشق أكثر من مرة، مقابل كل محاولة اقتحام، لتنتهي الجولات بهدن جديدة واتفاقيات تعيد الأمان النسبي إلى قرى الوادي.
تضم ميليشيا “درع القلمون”، مقاتلين من بلدات القلمون الشرقي والغربي، وشاركت في معارك المنطقة، والتي استعادت خلالها قوات الأسد سيطرتها على عدد من المدن والبلدات، أبرزها يبرود والنبك وقارة، كما تقاتل في جبهات أخرى أبرزها محيط مطار “تي فور” في ريف حمص، وريف حماة الشرقي |
حقق 2016 تغييرًا جذريًا في معادلة النفوذ بمحيط العاصمة، فكان عام التهجير بامتياز، ابتداءً من داريا، مرورًا بمعضمية الشام وخان الشيح وزاكية، وقدسيا والهامة، والتل وكناكر وسعسع، ليصبح محيط العاصمة “آمنًا” باستثناء ثلاث مناطق رئيسية، وهي الغوطة الشرقية بمدنها وبلداتها وفصائلها القوية، وجنوب دمشق المهادنة أصلًا منذ عامين، والتي تناقش بنود تسوية “قسرية” تفضي إلى رحيل رافضي الأسد إلى إدلب، ومنطقة وادي بردى شمال غرب دمشق.
منذ 22 تموز الماضي، وبعد أن دخلت قوات الأسد وعناصر “حزب الله” اللبناني، قرية هريرة التي تعدّ بوابة قرى وبلدات منطقة وادي بردى، رسم النظام السوري والحزب سياسة دخول المنطقة، الأمر الذي تجلى بالحملة التي بدأت في الثلث الأخير لشهر كانون الأول من عام 2016.
ورجّح ناشطون منذ ذلك الحين، بدء حملة على وادي بردى، بهدف إدخالها ضمن مناطق سيطرة “حزب الله”، باعتبارها امتدادًا لسهل الزبداني، حيث تتركز قواته، ومحاذية للحدود مع لبنان، إلا أن آخرين وضعوا الملف في ملعب النظام، الذي يحاول تأمين محيط العاصمة وضم المنطقة لسيطرته، وهذا ماجرى خلال الأسابيع الماضية، عاشت خلالها المنطقة أوضاعًا وصفت بـ”المأساوية”.
بين صد ورد تكررت محاولات اقتحام المنطقة، وسط قصف مكثف استهدف قراها وبلداتها، أسفر عن مقتل مدنيين وجرح آخرين، عدا عن حالات القنص التي وثقتها الهيئة الإعلامية في المنطقة، وسط انقطاع الماء والكهرباء والمواد الطبية عن الوادي، وازدياد تفشي الأمراض، بسبب شرب مياه غير صالحة للشرب.
ومنذ بدء الحملة سارعت ميليشيا “درع القلمون”، التي تأسست مطلع عام 2014، إلى إرسال تعزيزات للقتال إلى جانب قوات الأسد وعناصر الحزب، وهذا ما أكدته صور حملها ناشطون من المنطقة إلى مواقع التواصل الاجتماعي.
الفعاليات المحلية في الوادي وخلال الحملة، حذّرت من احتمال “وقوع كارثة بشرية” بحق ملايين المدنيين في وادي بردى والعاصمة دمشق، في ظل استمرار حملة القصف والهجوم البري من قبل قوات الأسد وميليشياته، ورغم التحذيرات لم تتحرك أي جهة دولية لوقف القصف.
وعزا النظام السوري استهدافه للمنطقة لانتشار جبهة “فتح الشام” في الوادي، رغم إعلانه الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار، الذي وُقّع برعاية روسية- تركية في 29 كانون الأول الماضي، وشهد مئات الخروقات من قبله، في مناطق أخرى من سوريا، الأمر الذي دعا المعارضة، التي أكدت أنه لا فصيل مستثنىً من الاتفاق، إلى تعليق مشاركتها في مفاوضات أستانة المقررة في 23 كانون الثاني الجاري.
تقدّم واتفاق
تعاني أحياء دمشق من أزمة مياه حادة، منذ انقطاع خطوط المياه الرئيسية عنها أواخر كانون الأول الماضي، وسط معارك في منطقة وادي بردى أدت إلى حدوث أعطال في منشأة “عين الفيجة |
دخلت ورشات الصيانة والإصلاح من قرية دير قانون في وادي بردى، إلى عين الفيجة لإصلاح الأضرار التي لحقت بالنبع وإعادة تأهيله، بعد أن تعرضت إحدى المجموعات لإطلاق نار من قبل “حزب الله”، والتي تعهّدت بوقف الاستهداف، ما سمح بدخول المجموعة كاملةً، ظهر الجمعة 13 كانون الثاني.
وجاء دخول الورشات عقب محاولات من وفود روسية دخول المنطقة على مدار الأسابيع الماضية، والتي منعها عناصر “حزب الله” المتمركزين في حاجز دير قانون، من الدخول إلى المنطقة مرتين، للاطلاع على الأوضاع، والعمل على وقف إطلاق النار، والتفاوض بخصوص إدخال ورشات الصيانة، من خلال التواصل مع وجهاء من وادي بردى مقيمين في دمشق.
ووفق الأضرار التي لحقت بالنبع نتيجة القصف، يفترض أن تستمر عمليات الإصلاح عدة أيام، عقب قصف لم يتوقف على قرى وبلدات الوادي على مدار أكثر من ثلاثة أسابيع.
تزامنًا مع وصول الورشات، تقدّمت قوات الأسد والميليشيات الرديفة، بإشرافٍ من “حزب الله” اللبناني، وسيطرت وفق مصادر عنب بلدي، على حوالي 80% من قرية بسيمة، التي شهدت مواجهات وصفت بـ”العنيفة” على مدار الأيام الماضية، رغم توصّل ممثلي أهالي وادي بردى شمال غرب دمشق، ومندوبي النظام السوري، إلى هدنة جديدة شملت قرى وبلدات المنطقة، وبدأت ظهيرة، الجمعة 13 كانون الثاني.
توغُّل القوات في بسيمة جاء عقب وصولها إلى الجسر، دون دخولها القرية، وفق المحامي فؤاد أبو حطب، الذي قال إن المعارك الواسعة جرت حينها عند مبنى الحناوي، تقدمت خلالها القوات مئة متر فقط، إلى أن جرى الاتفاق على دخول ورشات الصيانة إلى عين الفيجة، في الساعة الخامسة والنصف من عصر الجمعة، وحينها استغل “حزب الله” الفرصة، وأكمل هجومه ليدخل القرية ويتقدم فيها أكثر نحو العمق.
المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا 12 كانون الثاني
المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب 12كانون الثاني
محافظ ريف دمشق علاء إبراهيم 13 كانون الثاني |
حتى السبت 14 كانون الثاني (اليوم الرابع والعشرون للحملة على الوادي)، جرت اشتباكات من ناحية بسيمة، حاولت خلالها عناصر الحزب وقوات الأسد، التقدم إلى قرية عين الخضرة، كما جرت اشتباكات على محور كفير الزيت (منطقة عين اللوز)، بهدف التقدم نحو عمق قرى وادي بردى، إلا أنها لم تسفر عن أي تقدم.
سيناريوهات محتملة
غموض كامل جلب جملة من السيناريوهات المحتملة بخصوص الوادي، تحدث أبو حطب، المطّلع على سير المفاوضات بين الطرفين، لعنب بلدي عن إحداها، موضحًا أن المنطقة ستكون عسكريًا تحت إدارة اللواء أحمد غضبان، وهو ضابط رفيع متقاعد، ومقيم في عين الفيجة، ليكون مسؤولًا متفقًا عليه من قبل الطرفين، وضامنًا لهدنة طويلة الأمد.
لكن، وأثناء إعداد هذا الملف، تمكّنت رصاصتان من الخلف من اغتيال اللواء أحمد غضبان، عند حاجز دير قانون.
ونعت المؤسسات المدنية في وادي بردى اللواء، متهمةً عناصر الحاجز بالعملية، وقالت في بيان لها إنه “توجه إلى الحاجز للتفاوض والاحتجاج على استمرار التصعيد العسكري رغم بدء الاتفاق، فباغتوه برصاصتين في الظهر بتوجيه من العميد قيس فروة وميليشيا حزب الله الإرهابية، وذلك لإجهاض كل أمل في حل سلمي يحقن الدماء”.
وأكّدت أن “الشهيد كان يترأس الوفد التفاوضي عن أهالي وادي بردى، وتمّ تكليفه مؤخرًا وفق اتفاقية الحل السلمي، المقدمة من اللواء علي مملوك، لإدارة أمور المنطقة عسكريًا وأمنيًا”.
وطالبت المؤسسات قادة الفصائل المجتمعين في أنقرة بعدم التوجّه إلى مؤتمر أستانة، والإعلان عن انهيار العملية السياسية، عازيةً ذلك إلى “استحالة التزام أطراف النظام وداعميه، باتفاق وقف إطلاق النار”.
كما دعت تركيا إلى تحمّل مسؤولياتها كطرف ضامن لاتفاق وقف إطلاق النار، المدعوم بقرار مجلس الأمن رقم 2336، والدفع لإدخال مراقبين أمميين إلى وادي بردى ومراقبة وقف إطلاق النار، وانسحاب قوات الأسد وميليشيا حزب الله من كل المناطق التي سيطرت عليها بعد توقيع الاتفاق.
وبهذه المعطيات فإن استمرار الاتفاق الجديد، محكومٌ بتحرّك سريع للدول الراعية له، فهو يضمن منع تهجير الأهالي أو المقاتلين على حد سواء من وادي بردى، ويتيح عودة أهالي بسيمة وعين الفيجة وأفرة وهريرة إلى قراهم.
لكن الصفحات الموالية للنظام، وبالتحديد التي تبث أخبارها من الفوعة، تحدثت عن ربط الملف بالبلدة الشيعية، وهنا تساءل ناشطون عن الضامن للنظام والميليشيات، “فربما يشهد الوادي كما في حلب عمليات احتجاز واعتقال للأهالي”.
بينما جرى الحديث عن تجهيز “باصات خضراء” لنقل مقاتلي وادي بردى إلى ريف إدلب، وهنا تحدثت مصادر مطلعة لعنب بلدي، أن “كل شخص من خارج وادي بردى يتوجب عليه المصالح أو مغادرة
المنطقة”، بموجب الاتفاق مع النظام، الذي بدأ من فوره الترويج على لسان محافظ ريف دمشق، علاء إبراهيم، بأنه “مستمر بتسوية أوضاع المسلحين في جميع مناطق الوادي”.
أما العسكريون والمنشقون والمتخلفون في الوادي، “يصالحون ويكملون خدمتهم ضمن مفرزة أمنية لحماية نبع عين الفيجة”، في حين “يُصالح الأهالي الذين يبقون ضمن وادي بردى”، وفق المصادر، إلا أن استمرار النظام بمحاولات التوغل وقصف المنطقة بالمدفعية، خرق الاتفاق، رغم دخول ورشات الصيانة إلى المنطقة.
وتأتي السيناريوهات عقب تأكيد “أبو محمد البرداوي”، عضو الهيئة الإعلامية في المنطقة، الذي قال في وقت سابق لعنب بلدي، إنّ النظام أرسل مرارًا وجهاء من المنطقة، للمطالبة بإجراء مصالحة شاملة على غرار مصالحتي قدسيا والتل، إلا أنّ الأمر قوبل بالرفض الشديد من فصائل المعارضة وأهالي المنطقة.
مع استمرار محاولات “حزب الله” والنظام اقتحام محاور وادي بردى، يصعب التكهن بخصوص ما يمكن أن تشهده المنطقة خلال الأيام المقبلة، فهل سيكون لـ”ثوار” وادي بردى كلمتهم، في رفض أي اتفاق يقضي بتهجيرهم، أم ستُكلل محاولات النظام المتكررة بضمها إلى مناطق “مصالحاته القسرية” في محيط العاصمة؟
نصف مليون سنة
تتفق أبحاث تاريخية، رصدتها عنب بلدي، أن الحياة في وادي بردى تعود إلى نصف مليون سنة خلت، لكنها شهدت ازدهارًا حضريًا في الألف الثانية قبل الميلاد، وتحديدًا في العصر الآرامي.
في كتاب محمود محمد علقم، “وادي بردى عبر العصور”، الذي اعتمد فيه على معلومات يعرفها عن الوادي حيث ولد وعاش، اجتهد الباحث السوري للوصول إلى أدق المعلومات قديمًا وحديثًا كي يطلع على تاريخه كل من له “شغف” بالمطالعة أو قراءة التاريخ، وموضحًا أنه يتعذر فصل تاريخ وادي بردى عن تاريخ مدينة دمشق أو تاريخ الزبداني، نظرًا للترابط الجغرافي والاجتماعي والحضاري والتاريخي بينها.
يسرد الكتاب، المؤلف من 144 صفحة، تاريخ وادي بردى على مر العصور الآرامية واليونانية والرومانية والبيزنطية ثم الإسلامية، والعصر العثماني ثم الاحتلال الفرنسي، وصولًا إلى العصر الحديث، مفنّدًا الوقائع التاريخية والاقتصادية والسياسية.
وجاء في حديثه أن “وادي بردى يحتضن نهر بردى، ويحنو عليه كما يحنو على دمشق ويزودها بالماء البارد العذب، ويهديها أفضل ما لديه من ثمار التفاح والخوخ والرمان والسفرجل والجانرك والمشمش والتين والعنب والزيتون.. ومن هذا الوادي شربت دمشق المياه العذبة أول مرة، وأنير أول مصباح كهربائي في منازل دمشق، ووصل الحرير إلى أنوال دمشق حيث كان يعج بزراعة التوت”.
تضمّن الكتاب مقالًا للباحث المؤرخ الدكتور سهيل زكار، قال فيها إن “الحياة في وادي بردى تعود إلى أبعد من نصف مليون من السنين، وازدهرت دمشق كمدينة منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد في العصر الآرامي، وكان وادي بردى جزءًا من مملكة دمشق الآرامية، كما ذكر الوادي في كثير من الكتب التاريخية، حيث كان طريقًا للقوافل بين المدينتين العظيمتين دمشق وبعلبك”.
“تاريخ دمشق” للمؤرخ ابن عساكر، أورد بعض المعلومات عن “سوق وادي بردى”، مشيرًا إلى أنه يقع على ضفة نهر بردى، ويبعد عن دمشق 30 كيلومترًا، وتأتي أهميته القديمة لوقوعه على الطريق التجاري الذي يربط دمشق بالساحل.
ازدهر “سوق وادي بردى” خلال العصر الروماني، وعرف باسم “آبيلينيه”، وكان تابعًا للحكم السلوقي وتابعًا لمنطقة بعلبك، وعرفت القرية فيما بعد باسم “أبيلا”، وأصبحت عاصمة ومملكة ضمت منطقة شمال غربي دمشق، وعثر فيها على مجموعة من الكتابات اللاتينية واليونانية التي ذكرت اسم حاكمها “ليسانياس” ومعبد “زيوس كرونوس”، وتحول فيما بعد إلى مزار النبي هابيل، ولم يبق منه سوى بعض درجات المنصة التي كانت تتقدمه وبعض النقوش الكتابية باللغة الإغريقية.
الباحث الدمشقي، عقبة نظام، تحدث في مدونة له عن تاريخ عين الفيجة، موضحًا أن “فيجة” كلمة إغريقية قديمة وتعني العين، ويعود سبب تسمية البلدة بهذا الاسم إلى أن “الفيج” أو “الفيجة” تعني المكان المنخفض المحصور بين عدة جبال، وهو حال المنطقة الحاوية على النبع والمأهولة بالسكان، حيث توجد في البلدة آثار تدل على قدم السكان فيها.
تحتوي البلدة معبدًا رومانيًا قديمًا عند منبع الماء، كان يدعى “حصن عزتا”، ومازالت بعض أجزاء هذا الحصن باقية حتى اليوم في الجزء الشمالي لموقع النبع، حيث توجد الحجرة المقدسة التي كان الرومان يقدمون القرابين لآلهة الينبوع في المعبد، والموجودة حاليًا في المتحف الوطني في دمشق، وتوجد في عين الفيجة آثار لنفق قديم، كانت “زنوبيا” ملكة تدمر تجر خلاله مياه نهر “بردى” إلى مدينة تدمر عبر البادية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :