براء الطه
لايمكن أن نختلف على أن كل شيء قابل للتغيّر والتبدل، الإ الجغرافيا فهي الثابت الوحيد.
تغيرت الوقائع والأولويات على الأرض عقب ظهور تنظيم الدولة والإعلان عن تشكيل التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في أيلول 2014، الذي كان يتطلب وجود قوى على الأرض يساندها هذا التحالف للقضاء أولًا على التنظيم، بعدما انتشر في الأراضي السورية والعراقية كالنار في الهشيم.
فكان الاعتماد الدولي في العراق على الجيش العراقي وقوات البيشمركة وقوات الحشد الشعبي، التي كان السبب الرئيسي لتشكيلها هو مكافحة التنظيم.
تختلف الصورة في سوريا، فالحرب التي عصفت بالبلاد منذ مطلع 2012 بين النظام والمعارضة، منعت توجيه الدعم للجيش السوري من قبل التحالف الدولي، فكان لابد من إيجاد قوات مغايرة يلقى على عاتقها تلقي الدعم لمكافحة الإرهاب، تتميز بتنظيم صفوفها وقيادة موحدة لجميع وحداتها. لم يكن من يمتلك هذه الميزات في فصائل المعارضة السورية سوى وحدات حماية الشعب، فماذا عنها؟
بدايات وحدات الحماية
تعيش القوات اليوم في محيط أقل ما يمكن وصفه بأنه مليء بالمتربصين في الداخل والخارج، فالمشروع الذي عملت عليه جعل منها رقمًا صعب في المعادلة السورية لايمكن تجاوزه، وسنحاول توصيف الحالة الكُردية من شتى جوانبها وتسليط الضوء على بداية نشأتها التاريخية.
حسب بعض المراقبين يرجع تاريخ تأسيس هذه الوحدات بعد انتفاضة القامشلي 2004، التي انتهت بالفشل وسيطرة الحكومة السورية على الأوضاع. بعد اندلاع الحرب في سوريا توسعت هذه الوحدات لتضم في صفوفها وحدات حماية المرأة التي تأسست عام 2012.
يغلب العنصر الكُردي إضافة لتمثيل خجول للعرب والسريان والآشوريين. وتعد الوحدات الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكُردي الذي كان أحد الأحزاب السورية المعارضة إبان اندلاع احتجاجات 2011، وهنا كانت بداية ظهور الوحدات إلى العلن.
ذاع صيت الوحدات بعد مواجهات حصلت بينها وبين قوات الجيش السوري منتصف العام 2012، في كوباني (عين العرب( وريفها، أفضت إلى انسحاب الأخيرة من هذه المنطقة، إضافة إلى عامودا وعفرين. هذا الانسحاب جعل علاقة هذه القوات بباقي فصائل المعارضة يغلب عليها الشك والريبة من ناحية تعاملها مع النظام السوري.
عملت القوات بدايةً على الحياد واتخذت من الدفاع استراتيجية أولية، لكن سياستها اختلفت بعد أن سيطرت جبهة النصرة على بلدة رأس العين في تشرين الثاني 2012، فانتقلت القوات للهجوم منعًا من سيطرة الجبهة عليها، وانتهت المعارك حينها بانتصار القوات في تموز من نفس العام.
أين تنتشر؟
انتشرت هذه القوات بداية في المناطق الشمالية الشرقية والشمالية ذات الغالبية الكردية.
وبعد انتشار تنظيم الدولة ووصوله إلى أبواب مدينة كوباني (عين العرب) في أيلول 2014، حاصر التنظيم المدينة، تزامنًا مع تدخل التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، الذي بدأ بدعم القوات إلى أن تمكنت من فك الحصار عن المدينة بعد حوالي 6 أشهر، حيث أثبتت أنها الوحيدة القادرة على مواجهة التنظيم وطرده من الأراضي التي سيطر عليها، فتمكنت من السيطرة على تل أبيض وربط كوياني بالحسكة في تموز 2015.
تشكيل قوات “سوريا الديمقراطية”
حُتم على هذه القوات الدخول إلى مناطق جديدة لا يشكل الكُرد غالبية فيها، وأن تكون جزءًا من قوة أكبر تضم ممثلين عن بقية المكونات في المنطقة وأهمها العرب، فأسست قوات “سوريا الديمقراطية” في تشرين الأول 2015، التي تضم العديد من الوحدات، وتشمل إضافة للعنصر الكُردي عناصر عربًا وسريانيين وتركمانيين، ووحدات حماية المرأة.
لاتوجد إحصائيات رسمية لعديد القوات، ولكنه لا يتجاوز 50 ألف مقاتل في أفضل الأحوال.
يشكل المقاتلون من غير الكُرد في القوات نسبة لا تتجاوز 30% جلهم من العرب، أما الفصائل المسيحية (المكون المسيحي كان يشكل في مجمل سوريا قبل عام 2011، أي قبل حدوث الهجرة، ما نسبته 10% من المجموع السكّاني) فالهدف الأول من انضوائها في القوات، كالسوتورو مثلًا، هو غرض الدعاية الخارجية.
القوة والتحالفات
اليوم، وعلى امتداد الجغرافيا التي تسيطر عليها القوات، بالشراكة مع بعض الفصائل المنضوية تحت قيادتها، لا يوجد لها منافس يشكل قوة موازية سوى ما تبقى من وحدات الجيش في مدينة الحسكة والمربع الأمني في القامشلي، إضافة إلى مطار القامشلي الدولي، فهي المتحكم الأول والأخير في المعابر المؤدية إلى مناطق سيطرتها، وعلى عكس مايشاع عن وجود تحالف بين هذه القوات والجيش السوري، فإن العلاقة بين القوات والجيش أشبه بالحرب الباردة يمكن أن تتحول إلى حرب دامية متى سنحت الفرصة لأحد الأطراف، هذه العلاقة تتطور بين الحين والآخر إلى علاقة مصالح مشتركة بين الطرفين ليس أكثر، وهو ماحدث عندما شن تنظيم الدولة هجومًا عنيفًا استهدف فيه مدينة الحسكة. فهدف القوات الأول والأخير هو تحقيق مشروعها ومحاولة الاستفادة من كافة الفرص المتاحة لتحقيقه.
تمتلك هذه القوات بعض الأسلحة الثقيلة كالدبابات والمدرعات، التي حصلت عليها من معاركهم مع فصائل المعارضة والجيش السوري إضافة الى أسلحة خفيفة ومتوسطة. إلى جانب مضادات الدروع التي حصلت عليها نتيجة الدعم الدولي.
ويعتمد تمويل القوات على الضرائب المفروضة في مناطق سيطرتها، إضافة إلى ممولين في أوروبا ودعم الجاليات الكُردية في مختلف دول العالم.
تحظى هذه القوات، وخاصة بعد ضمها (نتيجة نصائح قدمتها لها الإدارة الأمريكية) لمختلف أطياف الشعب السوري في المناطق التي تسيطر عليها، بدعمٍ دوليٍ غير محدود. جاء هذا الدعم كما أسلفنا بسبب التنظيم العالي الذي تنتهجه، والخضوع لسلطة سياسية تملك خبرة وأهدافًا واضحة، ألقي على عاتقها مهمة تمثيل هذه القوات، وتقدير حجم التضحيات التي قدمها عناصرها، هذا العمل المنظّم جعل منها قبلة يتوجه لها المدافعين عن الحرية والديمقراطية من شتى أنحاء العالم، فرادة وحكومات.
المحيط يتربص.. تركيا لن تسمح
هذه النجاحات انعكست سلبًا على علاقة القوات ومحيطها، وخاصة دول الجوار والجار التركي، الذي يعمل جاهدًا، على عدم انتقال العدوى إلى أراضيه التي فيها أكبر تجمع للكُرد في المنطقة، ما سيشكل خطرًا على الأمن القومي التركي، الذي هو مهدد أساسًا نتيجة الحرب التي تجتاح الجارة الجنوبية، عن طريق منع تشكيل الفيدرالية ووصلها جغرافيًا، فقامت أنقرة بتخصيص جزء من قوات المعارضة ودعمها بغية تشكيل حاجز يمنع التقاء الكانتونات الشرقية مع كانتون عفرين. إضافة إلى محاولة السيطرة على أراضٍ سيطرت عليها القوات بعد معارك خاضتها مع تنظيم “الدولة” كمنبج. كما عملت جاهدة لإبعاد المكون التركماني عن القوات وهي تملك ما يؤهلها لذلك من مغريات، ولا ننسى التجييش الإعلامي ضد القوات وتضخيم الأخطاء المرتكبة في مناطق سيطرة القوات، ومحاولة تكوين حشد دولي ضد الخطوات التي تقوم بها، إلى حد المطالبة بوضع الحزب القيادي فيها (PYD) على لائحة الإرهاب.
العلاقات مع العراق محكومة بجيرانٍ غير راضين
أما الجارة العراقية والتي تقسم فيها العلاقات إلى قسمين: العلاقات مع الحكومة العراقية المركزية، ومع حكومة إقليم كردستان العراق.
فمع الحكومة المركزية تكاد تكون علاقات “سوريا الديمقراطية” معدومة، فهي تخشى من تكرار السيناريو الذي حدث على أراضيها، الأمر الذي سوف يشجع بقية المكونات للمطالبة باستقلالها كحكم فدرالي.
أما على صعيد حكومة إقليم كردستان، فهناك خلافات وتبادل للاتهامات بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، إذ يكمن جوهر الخلاف في الهيمنة على كردستان سوريا، فالأول يتهم الكردستاني بتنفيذ سياسات تركيا المعادية ضده، ومحاولة فرض الحصار على المناطق الكردية السورية عن طريق غلق معبر سيمالكا الوحيد بينهما، والتضييق على مؤيديه عن طريق منع فتح مكاتب للحزب في أربيل العراقية. أما الكردستاني فيتهم الأول برفضهم إقامة دولة كردية وتضييق الخناق على الأحزاب السياسية القريبة منه وعدم إشراكها في العملية السياسية.
انقسام كردي- كردي
هذه الخلافات انعكست على الصورة الكردية- الكردية في سوريا فانقسم الكرد السوريون على جبهتين: الأولى متحالفة مع الكردستاني وتحظى بدعمه، وهي عبارة عن المجلس الوطني الكردي، ويندرج تحتها ثلاثة عشر حزبًا، والثانية هي حركة المجتمع الديمقراطي وتتكون من عدة أحزاب بقيادة الديمقراطي الكردي.
المجلس الوطني يتهم الديمقراطي بفرض سياساته المتمثّلة في فرض التجنيد الإجباري وفرض مناهج تعليمية مؤدلجة، والاتهام بالعمالة للنظام السوري.
فيما يتهم الديمقراطي الكردي المجلس الوطني بالعمالة للأتراك ومحاولة تأجيج الشارع الكردي السوري ضده.
هذه الخلافات تطورت لتصل إلى حد الحشد لتظاهرات دعا إليها المجلس الوطني الكردي ضد ممارسات الديمقراطي واستئثاره بالحكم. فيما تشن قوات الاتحاد والاسايش عمليات اعتقال ضد قيادات الوطني الكردي.
ماذا عن العرب؟
أما على صعيد العنصر العربي، فلا يمكن للقيادة السياسية والعسكرية للقوات أن تتجاهل هذا المكون، خاصة أنه يشكل غالبية سكانية في سوريا، وفي المناطق التي تسيطر عليها، فعملت على ضم العناصر العربية المناهضة للتنظيم التي كانت مجبرة على الانضمام، كون القوات هي الجهة الوحيدة التي تحظى بدعم أمريكي ودولي، والتغطية الجوية في حربها ضد التنظيم، وغياب الخيارات والبدائل، وفشل مشاريع تشكيل قوة عربية حقيقة يمكن الاعتماد عليها لمكافحة الإرهاب.
استطاعت القوات، ومن خلفها الحزب الديمقراطي، إلى الآن التعامل بمرونة مع المناصرين العرب عن طريق محاولة كسب تأييد قادة محليين مع الحفاظ على قوته العسكرية لنفسه.
وعلى صعيد آخر تتهم المعارضة السورية القوات بالقيام بعمليات تطهير عرقي ضد السكان العرب والتركمان في المناطق التي تسيطر عليها. ففي تشرين الأول 2015 اتهمت منظمة العفو الدولية الحزب بعدم السماح لبعض سكان القرى العربية بالعودة إلى مناطقهم، الذي برر أن سبب تأخير العودة هو من أجل تأمين المناطق، فقرب التنظيم منها يجعل من عودة المدنيين لها أمرًا صعبًا.
لا يمكن إنكار أن الكرد بحاجة ماسة إلى تعزيز ديمغرافيتهم في منطقة متنوعة عرقيًا، كما لايمكن إنكار حدوث ردات فعل على بعض سكان المناطق العربية الذين دعموا التنظيم وقاموا بطرد الكُرد والاستيلاء على ممتلكاتهم، كما حدث بالقرى ذات الغالبية الكردية في ريف عين عيسى، والكرد القاطنين في مدينة الرقة. مثل هذه الأفعال والممارسات قد تؤدي إلى حالات انتقام، لكن رئيس الحزب صالح مسلم أوضح في العديد من لقاءاته عن السياسة المتبعة تجاه العرب، إذ قال إن القوات ستقاتل المجموعات الجهادية لكنها لن تعنف العرب سواء كانوا سكانًا أصليين أو نازحين إلى “روجآفا”.
وقسّم مسلم العرب الى ثلاث فئات: عرب نتعايش سوية ونقاتل جنبًا الى جنب ونصون أخوتنا معهم، وعرب لا ينتمون إلينا جاؤوا من الخارج، وهم الجهاديون الذين أحرقوا منازلنا وذبحوا الكرد، وعرب أجبروا على الانتقال إلى كردستان إلى منطقة الجزيرة من قبل الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وهؤلاء نعتبرهم ضحايا ونؤيد حلًا سلميًا لهم، وعلى القادرين منهم على العودة الى مناطقهم أن يعودا، وأما الآخرين فيمكنهم العيش بسلام مع الكرد (ويقصد هنا عرب الغمر).
النظام السوري.. هدوء قبل العاصفة
أما علاقات القوات مع النظام السوري، فهي كما أشرنا سابقًا تمتاز بالسكون وتتجه في بعض الحالات إلى علاقة مصالح لتحقيق الأهداف.
حدثت عدة مواجهات بين الجيش السوري والقوات، كان آخرها ما حدث في آب 2016 والتي انتهت بوساطة روسية.
النظام السوري حبّذ منذ بداية الحرب عدم التصعيد مع الكرد، كونه يعلم أن مشروعهم لا يشكل خطرًا وجوديًا على استمرارية النظام، فحاول اللعب بالورقة الكردية ضد تركيا، المتضرر الأكبر من أي تحرك كردي في الجنوب، لذلك فضل تسليم هذه المناطق بشكل مؤقت للقوات الكردية حتى انتهاء حربه مع المعارضة وداعميها. وذلك كونه يعلم جيدًا صعوبة التحرك الكردي وآنيته، لعدة أسباب ليس آخرها الجغرافيا الثابتة التي ل ايمكن أن تتغير.
أخيرًا فإنه يتوجب على القيادات الكُردية ضرورة توطيد العلاقات مع شركائهم في الوطن من باقي المكونات، وإشراكهم بشكل جدي في مشروعهم وتحوله لمشروع وطني جامع غير مقصٍ لأي مكون، كونهم الضامن الوحيد لاستمراريته بعد زوال سبب القوة والدعم.