بشار السبيعي
لم يرقد جسدك في قبرك بعد وانتفض صغار القوم على قامتك، أنت من ولدتك دمشق من رحمها وتعشقت في طيات جسدك عطورها. سبعون عامًا من العطاء لم تشفع لك عند أولئك الأقزام الذين يدّعون اليوم بأنهم معارضون وثوّار.
لم يبرد دمك بعد وأقلامهم السوداء غرزت في صفحات التواصل الاجتماعي سواد قلوبهم وقذارة فكرهم وحقدهم على كل من اختار الوطن فوق كل شيء.
لم يصفح لك حبك الفطري لهذا الشعب الجميل الذي لبست ثيابه بشخصية “أبو صياح”، ولا فناء عمرك في خدمة الفن وإرساء أعمدته في الإذاعة والمسرح والتلفزيون والسينما. كنت علمًا من أعلام الفنّ السوري لكل من شاركك في مسيرتك وكل من جاء من بعدك.
تشربت أنا حب الوطن من حبك له، وتعلمت أخلاق الفنّان من مرافقتك منذ نعومة أظفاري إلى رحلاتك اليومية إلى الإذاعة والتلفزيون وأماكن التصوير للأفلام والحفلات واستديوهات التسجيل الموسيقي. كنت لي أبًا ورفيقًا في نفس الوقت، وكنت أرتشف حب الشام وأهل الشام وأنا أشاهد جمهورك يُغدق عليك الحب والثناء والدعاء لك بطول العمر والهناء.
لم تتح لي الفرصة يا أعز الناس أن أقول لك إن أجمل أوقات عمري قضيتها معك، كنت أنسى نفسي وأنسى من أنا، أتلاشى، أُصبح ظلًا فقط أمام قامة من قامات الفن تتراكض إليها الناس في الشارع لإلقاء السلام والتحية مع البسمة على شفاههم والحب في أعينهم.
وهبك الله حب الشعب عبر نتاجك الفني، ووهبك الشعب هذا اللقب “فنّان الشعب”، لأنه رأى فيك قيم الحب والعدل والأخلاق والإيمان في الوطن والتفاني في العمل، تلك القيم التي كان يتوق لها عندما انتفض لنصرتها في عام 2011.
تركتك في أواخر عقدي الثاني من عمري ورحلت عن تلك المدينة التي علمتني كيف أحب وكيف أحزن، الفيحاء التي تودعك اليوم كما ودعتك أنا آخر مرة، عندما غادرت مرغمًا حتى لا أسمح لهم بإحراجك، لأنني كنت متعاطفًا وأبقى كذلك مع من انتفض ضد الظلم والطغيان.
أنت من علمني حب الناس وأنت من علمني في هذه الحياة بأن أعامل الآخرين كما أحب أن يعاملونني، ستذكرك أجيال كبرت وهي تشاهد أعمالك وإنتاجك الفني، وسيشهد التاريخ لك أنك ابن الشام البار، الذي لم يبع كرامته وإنسانيته من أجل المنصب أو المال، والذي كان الإخلاص والوفاء للآخرين عبر حياته هما البوصلة التي قادت مسيرته فيها عبر السنين.
ارقد قرير العين في ترابها، فقد ناحت غصون الياسمين، وصاحت مآذنها وكنائسها بصلاة تودع فيها ابنها الطيب الشهم، الذي أفنى حياته بحبها وحب شعبها.
مهما قيل عنك لكنني أعرف أنك لم تكن يومًا عبدًا لسيد، ولم ترضَ يومًا بالظلم والطغيان، وستبقى دائمًا فنّان الشعب، لأنني أعرف أن إصرارك على البقاء في دمشق وهي في محنتها ورفض الرحيل عنها، ماهو إلا الدليل على إخلاصك لها ولأهلها جميعهم.