جريدة عنب بلدي – العدد 15 – الأحد – 13-6-2012
نجد في كل زمان فتيات متميزات يعطيهن الله من طاقة وقوة ما يجعلن فيه الجيل القادم كله متميزًا..يردن أن يقدن سيرة سمية وأسماء وخديجة رضي الله رضي الله عنهن كلهن فقد كانت الواحدة منهن أمة… كانت المربية الوحيدة لأبنائها، إليها يعودون، ومن أفواههن يستجلين الحكمة، ويختصرن طريق الحياة الشاقة إلى الثمرة مباشرة بطاعتهن ونفاذ بصيرتهن.
صدقوني لم تكن الأم في يوم خادمة، أو جارية، أو متاعًا يباع ويشرى بثمن بخس، ولم تكن يومًا عارضة أزياء، أو فتاة إعلان تُظهر صورتها برخيص الأثمان على أسفال النعال ليبتاعها الناس.
لقد كانت دومًا أمًا، وحكيمة، ومرشدة، وإدارية، ومعلّمة، ومربية أجيال، وكان البيت مدرسة وفيه مدرّسة متفرّغة أبداً لعشرة أولاد، تستيقظ في الصباح لتهيئ عشرة جنود ترسلهم في ميدان الحياة، تضمّد جراح الجرحى، وتغسل ثياب المجاهدين، وتعد الطعام للعلماء، وتكوي ثياب المصلين، وتقرئهم الشعر والقرآن والحديث، وتنظر في كرّاساتهم، فتصحح الخطأ، وتشرف على الواجب.وتوفر الجو المثالي لعشرة من المبشرين بالجنة، يسبقونها إلى الجنة وتلحق بهم، أو تأخذ بأياديهم إلى هناك {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } الطور21
ثم تذهب في آخر الليل إلى فراشها، فتهدهدها الملائكة، ويرضى عنها ربها، ويباهي بها ملائكته ويقول {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } البقرة30
وحينما يكون أحد الدعاة على يديها طفلاً رضيعًا، فإنها كل يوم تقرأ في أذنيه القرآن والكلمات الإيجابية، وتعتني بنطقه ونظافته، وما سيدخل هذا الرأس الصغير من كلمات، كانت تعرف بأن هذا الطفل الصغير سيكون داعية، إن كانت هي أمًّا لداعية، وعاملته كما تعامل أمهات الدعاة أبناءهن.
وهذه الأم تُخفض الطرف لزوجها ولأبنائها وأهلها، وتتكلم بصوت خفيض، وتستمع بكليتها، تواسي، تشجع، تبتسم، تنهر، تزجر، تعلّم، تربّي، تفتح ذراعيها لابنها الباكي أسفًا على دينار ضاع منه في زحمة الشارع، تتلقفه بذراعيها الحانيتين، وتعانقه إلى صدرها، تلف نفسها عليه كله، وتفوح منها رائحة الأم، وللأم رائحة خاصة، وملمس خاص، ودفء خاص حتى في أشد أيام الشتاء برودة وثلجًا، وتمسح بيديها الحانيتين شعره، وتقول له «عوّضك الله خيرًا منه يا حبيبي، غدًا تشرق الشمس ويغدق الله علينا بدينار غيره، وحينما تكسب مالأً أكثر سوف لن يكون الدرهم كل ما عندك، وسوف لن تخسر كل ما لديك، وبالشكر يا بني الصغير يديم الله علينا نعمته، خذ هذا الدينار وقم وتصدق به على الفقراء، فهذه أموال الله، وقد تذهب منا دون أن نريد، وتعلّم أن تتخلى عن أموالك بإرادتك ليحفظها الله عليك»، وكانت في كل مناسبة تخلع أساورها الذهبية لتجعلها عند بائع الذهب نقودًا، وكنت في كل عيد أجمع «عيدياتي» وأقدمها في ورقة ملفوفة هدية لأمي لأجل أن تشتري أساور ذهبية، وكانت تفرح بها، وتشتري بها أساور ذهبية -هكذا كنت أظن- فهذي الأساور كانت لعبتي وأنا أرضع من ثدييها، وكانت أول شيء تعلمت عليه:1-2-3..وكانت طقطقتها وأنا نائمة تطمئنني أن أمي إلى جانبي…
هذه الأم التي تتزلزل الدنيا تحت أقدامنا حين يمسها مكروه، أو تقعد في الفراش من ألم، وتستدر دموعنا دموعها إذا تألمت وأنا كرهت الألم لأنني كنت أراه يتحيل جسد أمي بين الفينة والأخرى.
وحينما يأتي وقت الاستماع إلى أخبار المساء، نجتمع كلنا حتى أخي الرضيع، وكانت تقول لنا تخيلوا أنكم تأكلون الآن خلايا ممتازة لتحل محل الخلايا التالفة في أجسادكم، وهذه الفاكهة والخضار ستتحول إلى أنزيمات وروابط تحفّز التفكير، وتسهل النوم، وتنشّط أجسامنا في الصباح الباكر، وكنت أرى في قطعة البرتقال قطعة من جسدي.
ما أحلاها وهي تشرح لأبنائها كيف ستتحول هذه المواد إلى خلايا تقول «سبحان الله إن عبدك فلان قد عمل أحسن ما عنده، فتقبل منه يا رب واجعلنا له طاقة كبيرة».
على ظهر يديها توجد نمشات كبيرة، تقول إنها لا توجد عند الأطفال لأنهم طيبون ولا يخطئون، وفي الشتاء عندما تجف يداي أخاف أن تتنمش فأسرع لأداويها بالمطري الذي في بيتنا، وأسمع ضحكات أمي، ولا أعرف السبب.
هذه صورة إحدى الأمهات….. إنهن حرائر داريا.. أمهات اليوم والغد الواعد.