عنب بلدي – العدد 82 – الأحد 15-9-2013
بيلسان عمر
اعتاد الناس على حاجز «مخيم الوافدين»، ككل حواجز الغوطة، أن يركنوا السيارات والسرافيس والباصات جانبًا، ليقوم عناصر الأمن بالتفتيش جيدًا، طالبين الهوية الشخصية وسند الإقامة أو عقد الإيجار أو ملكية البيت، مع فواتير الكهرباء والماء والهاتف، لساكني المخيم الأصليين، أو النازحين إليه، وكذلك الهوية الشخصية وبطاقة الزيارة من المتوجهين إلى سجن عدرا المركزي.
أما الجديد ما يحدث الآن، إذ صعد أحد عناصر الحاجز إلى السرفيس، وبشكل تلقائي جهز الركاب أوراقهم للتفتيش، ولكن الغريب أنه صرخ ومن صميم قلبه :»ما بدي أكافح الإرهابيين…خليهم عم يتفتلوا بالبلد ع كيفهم…بدي كافح الخبز»، وبدأ بفتح أكياس كل الركاب بحثًا عن ضالته.
تسمّر أبو خالد (86 عامًا) في مقعده حائرًا والدمعة تخنق أنفاسه؛ كيف يطعم أولاده وإن اكتشف عنصر الأمن ما بحوزته سيستولي عليه دون رحمة. سأله عنصر الأمن «كم ربطة خبز معك؟» فأجابه أربع ربطات، وعندما فتح العنصر الكيس وجد فيه ستًا، أخذ منها أربعة وترك اثنتين فقط، لا تسدان رمق الأسرة التي لم تذق طعم الخبز منذ أيام، وبدأ ينهال بالشتائم والمسبات، واختتم قائلًا: «عيب ع شيبتك تكذب…أنت رجال والرجال ما بيكذب!».
أم سامر(75 عامًا) كانت قد عادت لتوها من «الكسوة» إلى «مخيم الوافدين» محضرة «إعانات الهلال الأحمر»، وعندما جاء دورها بالتفتيش فتحت أكياس الحطين والسكر التي تحملها للتأكد أنها لا تتجاوز ال 5 كغ المسموح ادخالها، ثم سمح لها بالعبور.
والحاجة أم جهاد (92 عامًا)، أرادت أن تفرح حفيدها الواقف على الجبهة، والصائم منذ ما يزيد عن ثماني أيام، بخبز بات حلمًا منتظرًا. فألصقت الخبز بجسدها لتخفيه عند مرورها من الحاجز، ولكن مع طول الانتظار للتفتيش يبس الخبز وبدأ يتكسر ويتساقط فتاتًا. ذهل عناصر الحاجز من المنظر، وبدؤوا يتبادلون الضحكات «شوفوا الحجة عم تهر خبز.. عظمها خبز.. لازم نحط جهاز بيصعق كهربائيًا وبيوقع كل شي لاصق ع الجسم ومهرّب».
أما عادل (موظف 35 عامًا)، يقف على دور الفرن، وبعد ساعتين من الانتظار، يأتي عسكري ويبدأ بالصراخ عليه، «يا ابن اللقيطة ليش واقف بالدور العسكري… البوط العسكري أشرف منك ومن اللي خلفوك»، لم يتحمل عادل هذا الكلام، وبدأت المشادّة الكلامية بينهما، والناس تحاول إسكات عادل خوفًا عليه، والعسكري يهدده بأنه سيحرمه النوم في بيته، ممليًا عليه محاضرة في الشرف والأخلاق ومزاودًا عليه بحب الوطن. وما هي إلا ثوان حتى أخذ العسكري حصته من الخبز أمام أعين الواقفين منذ ساعات والذين أنهكهم الجوع والألم والحسرة والسعي المضني وراء لقيمات يقيمون بها أصلابهم. استدار العسكري وقال لهم: «أنا آخذ الخبز لأصدقائي الذين يحمونكم على الجبهات، وليس مثلكم تأخذونه للجيش الحر!»
وآخر من عناصر الأمن، يغمز فتاة لا تتجاوز الـ 15 ربيعًا جاءت تشتري خبزًا لإخوتها اليتامى بعد أن أفقدتهم الحرب والديهم. يناديها من بين الجموع المحتشدة أمام الفرن، يستعرض ما تبقى من رجولته أمامها وأمام الواقفين، ثم يأخذ منها النقود، ويحضر لها، وبكل «رجولة»، الخبز من الدور العسكري، رأفة بأنوثتها التي هيّجت مشاعره، دون أن يدري ما فعلت آلة حربهم بعائلتها.
وما بين لقمة العيش، ولقمة الكرامة تستمر الحرب، تطحن برحاها من تطحن دونما أدنى اعتبار لأي منهما.