علمانية المساجد
طريف العتيق
لطالما تمّ خداعنا لسنواتٍ طويلة بأن أعداءنا هناك، يجثون بعيدين عنّا، في الخارج، يتربصون بنا الدوائر، هم سبب كل بليّة وكل مصيبة، منذ تاريخنا الأول الذي أطاح عبد الله بن سبأ اليهودي بمثاليته الطوباويّة، مرورًا بالمؤامرة الامبريالية الاستعمارية، التي فتتت العرب ومزقت وحدتهم واحتلت بلادهم، وانتهاء بقوى الكفر والإلحاد، التي تكيد للإسلام، وتتربص به المنون.
بهذه الطريقة يتم إبعاد نظرنا عن ما نعانيه حقيقة، أي الأسباب الداخليّة لضعفنا، وتُصرف جهودنا عن معالجة مكامن الخلل الحقيقية.
ننسى مثلًا أن من استباح المدينة المنورة وقتل من فيها من بقايا المهاجرين والأنصار وخيرة التابعين وألوفًا أخرى، هو مسلم بن عقبة لا عظيم القبط، وأن من رمى الكعبة بالمنجنيق كان الحجاج بن يوسف الثقفي لا قيصر كسرى، وأن من قتل ابن رشد وأحرق كتبه خليفة المسلمين لا مستعمر الغزاة. وأن من رمى الحلاج من على مئذنة لم يكن الرومان، بل المسلمون الأقحاح..
وبذات العقليّة التي نتناول بها تاريخنا، يتم التعامل مع حاضرنا اليوم، فالخطر كل الخطر بالعلمانيين الخارجين عن الدين، الذين لا مكان لهم بعد اليوم في البلاد (كما صرح غير واحد من الرموز الدينيّة السوريّة كالشيخ كريّم راجح)، لأنهم أساس كل الشرور، إذ إنهم ينادون بفصل الدين عن السياسة، بينما الدين عندنا (والكلام للدعاة) هو دين ودنيا، وحياة وآخرة، إذ لم تترك الشريعة ميدانًا من ميادين الحياة إلا وتطرقت لتنظيم شؤونه ولو بالخطوط العريضة.
وبينما يمكن فعلًا تقديم العلمانيّة باعتبارها فصلًا للدين عن الدولة مع التزام الصمت حيال القضايا النهائية (كما يقدمها الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة)، فإن ما فعله المشايخ والدعاة والفقهاء وسائر رموز التيار الدينيّ التقليديّ منذ مئات السنوات وحتى اليوم كان أسوأ من ذلك بكثير، إذ فصلوا الدين عن الحياة، فباتت الحياة في وادٍ والدين في وادٍ آخر تمامًا.
فأول ما تمّ كان فصل الدين عن العلم، إذ انتشرت الخرافات والأساطير وطرق التفكير غير العلميّة بين منتسبي التيار الدينيّ، وحورب العلم أحيانًا باسم النصّ المقدّس، وها هي منابرنا ومرتادوها بعيدون تمامًا عن الحقول العلميّة وأفكارها الرئيسة والفتوحات التي غيّرت وجه العالم (إذ ليس الحديث هنا عن دقائق العلوم)، على الرغم مما يقال من كلام نظريّ عن أن ديننا هو دين العلم.
ثمّ فصل الدين عن الفلسفة، التي تم زندقتها وتكفير الكثير من متكلميها، حتى لم يعد بمقدور الملتزمين دينيًا مناقشة موضوعٍ ما بشكل منطقيّ لضحد حجته الداخليّة، بعد الابتعاد عن رياضة العقول.
ثم فصل الدين عن الفنّ بتفسيق هذا الأخير وتمجينه وربطه بالانحلال الأخلاقيّ وبأنه تحدّ لخلق الله، كما فصل الدين عن مشاكل الحياة اليوميّة البسيطة، لصالح مشاكل دينيّة اعتباريّة، فلم يعد قادرًا على تقديم حلول ومعالجات للمشاكل التي ازدادت تجذرًا وتعقيدًا.. وهكذا استمرت الحلقات بالتساقط تباعًا، حتى بات لدينا من يقف ليخطب عن فقه الطهارة، وسير الصالحين، وكرامات الأنبياء، وحقوق الآباء على الأبناء، بينما تمرّ البلاد بأهم منعطف في تاريخها..
لقد تحولت مساجدنا لصوامع تعبديّة، وبات ديننا ترهبًا حقيقيًا، فما تسمعه داخل المسجد لا يمتّ بصلة لحياتك خارجه، كل ما يريده منك مشايخ المساجد، أن تصلي الخمس وسننها، وتصوم الشهر والنوافل، وتتصدق لإطعام الفقراء، وأن تكون ذاكرًا لله، مطيعًا، حتى تدخل الجنّة بسلام، غاية المؤمن ومنتهى مرامه…
وهذه بالضبط صورة التديّن التي لم يربِّ عليها الإسلام أتباعه! بل خلت فترة التربية والإعداد في مكة المكرمة طيلة عشر سنوات، من كلّ ما سبق، وكان التأسيس والعمل يتمّ على مستويات أعمق من ذلك بكثير.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :