عنب بلدي – هيئة التحرير
“اللهم إنا نتبرأ إليك من أي سفك للدماء أو قتل في داريا، باسم أي ذريعة وبحجة أي تبرير، ونتبرأ من أي تعذيب أو ظلم لأي إنسان مهما كان”، كانت هذه الكلمات آخر ما كتبه الصحفي نبيل شربجي، قبل اعتقاله من قبل فرع المخابرات الجوية بدمشق.
كان “الجيش الحر”، المناصر للثورة، قد بدأ بشن أولى عملياته ضدّ نظام الأسد، وبتصفية عملائه في داريا. قلائل من النشطاء كانوا غير راضين عن عمليات القتل التي كانت تستهدف “العواينية” والمتعاملين مع النظام، خشية انتشار فوضى القتل والوقوع في الدم “الحرام”. نبيل كان من أولئك الذين تبرؤوا مرارًا من أي أعمال عنف قد تودي بحياة المدنيين ظلمًا.
كتب نبيل على صفحته في “فيس بوك” قبل أسابيع من اعتقاله: “أشهد بأننا لن نسكت عن ظلم أو قتل من أي إنسان حتى ولو كان من أقرب الناس إلينا، ومستعدون للموت في سبيل ذلك، ولأننا أحببنا سوريا ونضحي من أجلها نرفض أن يصدر شخص أو أكثر النطق بقتل إنسان، لأننا نقاتل من أجل دولة القانون ودولة القضاء الحر والنزيه الذي بيده كل ذلك”.
قبل ذلك كان نبيل الصحفي الوحيد الذي شارك مع مجموعة من الناشطين تأسيس أول تجربة صحفية مستقلة في داريا (عنب بلدي)، وقد حرر أخبار أعدادها الأولى، ونشر بكاميرته وصوته فيديو إعلان إطلاق العدد “صفر” من الجريدة في 29 كانون الثاني 2012.
يا سوريا لا تسجلينا غياب
رغم انخراطه في العمل السلمي وتنظيم الحراك في داريا، كانت حالة نبيل على وسائل التواصل الاجتماعي “يا سوريا لا تسجلينا غياب”. ربما كان يتخوّف من الغياب فعلًا، وهو ما كان يتردّد على لسانه بتوقّعات باعتقاله يومًا ما.
في شباط 2012، الشهر الذي كانت قوات الأمن تقطع الكهرباء فيه بعد العاشرة وتجول في داريا ليلًا، كان نبيل وقتها يغتنم الظلام ليتجوّل في أزقة المدينة ويواصل تنسيقه مع قادة الحراك.
في يوم 26 شباط، وهو اليوم الذي حرق فيه ناشطو داريا مسودة دستور اقترحه النظام السوري، معتبرين أنهم لا يعترفون بالدستور ولا بالنظام الذي اقترحه للاستفتاء، رفع نبيل تسجيل حرق الدستور في “يوتيوب”، وقرّر ليلًا زيارة صديقه الذي كان يتجهز للسفر، ولم يستطع مستضيفه في المنزل إقناعه بالعدول عن القرار، فخرج معه لإيصاله إلى وجهته، وفق ما ينقله لعنب بلدي.
عند تقاطع شارع عمر بن عبد العزيز وسط المدينة، أوقف موكب الأمن السوري سيارة يستقلها نبيل ومستضيفه وشقيقه، سألهم “أبو كايد”، قائد الموكب الأمني الذي يجول في داريا، عن أسمائهم وعملهم، فأجاب الشقيقان، وأمرهما بالوقوف جانبًا.
أنا صحفي.. اتركوا أصدقائي
“نبيل شربجي، أنا صحفي، لست مرتبطًا بعمل”، هذا كان جواب نبيل لقائد الحملة، بحسب مرافقه، الذي اعتبر أنه “شجاعته” بالإفصاح عن عمله، في وقتٍ يلاحق فيه النظام السوري الصحفيين والناشطين، كانت محاولةً للفت النظر إليه ليكون “كبش فداء” ويستطيع تهريب الشقيقين.
صادر “الشبيح” لابتوب نبيل، واقتاده إلى فرع المخابرات الجوية في المزة، ليقضي فيه أصعب فترات التحقيق، بحسب ما نقل معتقل كان في نفس زنزانته (توفي الشاهد لاحقًا خارج المعتقل بمرض عضال)، ثم نقل بعدها إلى الفرقة الرابعة في جبال الصبورة، قبل أن ينتقل إلى سجن عدرا المركزي، وبعدها إلى صيدنايا، حيث وصلت معلومات من معتقلين معه أنه توفي متأثرًا بالمرض في أيار 2015.
رسائل من السجن
الداخل إلى السجون السورية مفقود والعائد منها مولود، لا اتصالات ولا تواصل مع الأهل، والمعلومات التي تصل عن المعتقلين قلّما تعطي صورة صحيحة عن مكانهم أو مصيرهم، وبينما الناس يحاولون الوصول إلى معلومةٍ عن ذويهم كان نبيل صوتًا لهم من الداخل.
أولى رسائل نبيل هي قماشة من قميص أحد المعتقلين، كتب عليها بالدماء والصدأ أسماء رفاقه في الزنزانة، وهرّبها الصحفي منصور العمري معه حين أطلق سراحه.
وبعد انتقاله إلى سجن عدرا المركزي، بعث نبيل مع زائريه مجموعة من الرسائل والمقالات التي نشرها في عنب بلدي، يُطمئن الناس في الأولى عن صحته وتجربته خلال سنة من الاعتقال في فرع جوية المزة والفرقة الرابعة، وإيهامه من السجان أنه يذهب إلى الإعدام أكثر من مرة، لكنّ الطمأنينة تسكّن قلبه.
وأورد في الرسائل تجارب من بعض ما يُبقي المعتقلين أحياءً، فيقول “في غفلة من ذلك كله، يبحث (المعتقل) جاهدًا عن متنفس ينفذ من خلاله من أقطار سماوات سجنه، ليشتم عبقًا للحياة، وعبيرًا يُنسيه حريته المسلوبة لبرهة”.
ويستشهد نبيل في مقاله بتجربة النبي يوسف “كلما خلوت بنفسي أستذكر يوسف عليه السلام، وأحاول أن ألهم نفسي جزءًا من صبره، إذ سُجن ظلمًا، ولكن مع ذلك قال (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) ونحن نقولها يا ربنا السجن أحب إلينا مما يدعوننا إليه طغاة قومنا”.
ووسط تهديده بالموت في كل لحظة “استمرت المعاناة، فمصيرنا إلى الآن غير معروف ضمن جو العزلة المفروض علينا حيث لا يُسمح لأحد بالاقتراب منا أو التواصل معنا”، كان نبيل يرثي رفاقه من تحت الأرض، فيقول “… وآخرون تطول بهم القائمة… لحظة موت تطايرت معها قطرات الحب من أوردتهم لتروي ظمأ أرض يغمرها الكره والحقد حتى الثمالة، فإما أن تسكر بخمرها فتؤمن، أو تنقلب جحيمًا لا تبقي ولا تذر!”.
“أخو عمر”
آخر الرسائل وأكثرها ألمًا، هي رثاء أخيه عمر، الذي قتل مدافعًا عن داريا في آب 2013، ويقول في مطلعها “طوال سني حياتي التي تساقطت أوراقها التسعة والعشرين، فإنني كنت لا أحتاج لوقت طويل حتى أقتنع بأمر ما، أو لأؤمن وأسلّم به، ولكن هذه المرة فإنني سأستغرق على ما يبدو الحياة بأكملها حتى أقتنع بأن شمسه قد غابت، وأدرك بأنني أفتقد عمر إلى الأبد”.
وختمها بالقول “ارقد بسلام ضاحكًا مستبشرًا، كما عهدناك، حيث أردت أن تكون، فقد حققت أسطورتك، أما أنا وأهلك وأصحابك فسيفرغ الله علينا صبرًا، وسيكفيني من حياتي بأن أكون (أخو عمر)”.
لم نفهم سبب إصرار نبيل على نشر رسائله، فقد كان يغني “راجعين يا هوى” معتقدًا أنه سيعود إلى الحياة، لكن هواه كان مختلفًا عن مفهوم الهوى الذي نصطلحه في حياتنا.
تواردت الأنباء عن مرض نبيل ووفاته، حتى تأكّدت المعلومة من المعتقل عمر الشغري أحد الشهود على الحادثة، “كان السجان يأتي صباح كل يوم، ويصرخ (عرصات المهاجع مين عندو فاطس؟)، يومها أجاب شاويش زنزانة مجاورة أنه لديه أحدهم، فسأله السجان عن الاسم الكامل واسم الأم وتاريخ الولادة، أجابه الشاويش: نبيل شربجي. ثم ذكر اسم والده ووالدته وتاريخ ميلاده، أتذكر ذلك اليوم جيدًا، فقد كان صديق نبيل المقرب معي في الزنزانة ذاتها، وبكى حين سمع اسمه، وتدهورت حالته النفسية والصحية كثيرًا لسماعه خبر وفاة أعز أصدقائه”.
رحل نبيل إلى أخيه عمر ورفاقه محمد خير شما ومحمد شحادة ومصطفى ريشة ومحمد قريطم …ورحلت أمه إليهم بعد تأكدها من وفاة نبيل في 28 كانون الأول 2016.
ويكفينا من حياتنا أن نكون “إخوة نبيل”.