يعيش العالم العربي مرحلة لعلها غير مسبوقة في تاريخه، وذلك لأن دفاع شعوبه عن هويتها لم يعد منوطاً بالدخول في حوارات وسجالات نظرية سلمية، بل لأن نمطاً آخر من السجال أخذ يفرض نفسه بين الأطراف المعنية، يتجسد في السلاح كما في القسر العنيف. وهذا بدوره، يدل على أن المجتمعات العربية (معظمها) لم تعد تعيش على أسلوب مجتمعي سلمي فيما بين أفرادها وهيئاتها وتنظيماتها، وقد مثلت الأحداث المسلحة في سوريا واليمن وليبيا والعراق مثالاً حياً لهذا التحول في جد الهوية.
أما ما يتمم لوحة الاضطراب في العالم العربي فتتمثل في التداخلات الخارجية غير المسبوقة، فالاشتراك المتعاقب لدول العالم في الصراع السوري، ينبئ بـ«عالمية الصراع»، ولكن ليس بصيغة تماثل أو تشابه الحربين العالميتين، مع أن معظم مفاعيل هاتين الأخيرتين ربما تغطي معظم العالم في الشرق والغرب، عبر مفاعيل «داعش» خصوصاً.
ضمن ذلك كله، وبصيغته العالمية، راحت صيغة من صيغ الصراع الديني الأيديولوجي والطوائفي تبرز بوضوح، طارحة بصخب واستفزاز علاقات ذلك كل بما هو موجود في العراق واليمن وسوريا، ومن ثم في العالم العربي، وتصاعدت المواقف السياسية والأيديولوجية والقومية مع تصاعد الصراع المسلح، الذي اكتسب بعده الجديد مع ظهور روسيا وإيران و«حزب الله» في ذلك كله.
كانت استراتيجيات العرب واضحة، أو اتضحت شيئاً فشيئاً؛ إخلاء المناطق السورية المأهولة بالسوريين من طائفة معينة، مع الإشارة إلى الاختلاف الطائفي بين مجموعات وأخرى، هذا الاختلاف الذي يجد مجاله الوجودي ليس ضمن الطوائف في الوجود العربي المعين، وإنما الخروج من هذا المجال إلى مجالات انتماءات قومية متعددة، وكذلك ضمن الانتماء القومي «الواحد». فسوريا عربية في الواقع والتاريخ، إضافة إلى البعد الدستوري الذي يتضمنه دستور الجمهورية العربية السورية.
ومن ثم، نلاحظ عدم تطابق تاريخي وقانوني دستوري بين الفريقين المذكورين أو بين فريقين آخرين مختلفين في الهوية القومية التاريخية. ومن هنا، فكل الجدلية المذكورة جدلية سياق تاريخي في بنية مجتمعية. ونحن بهذا نضع يدنا على هوية الإنسان العربي كحصيلة تاريخ ومجتمع أو مجتمعات، ويترتب عن ذلك أن الشعب السوري العربي، هو في التعريف المنطقي، شعب عربي وسوري. فالهوية العربية هي ظاهرة بشرية تستمد مددها مما يعيشه البشر في مجتمع أو آخر، ومن ثم مما يتحول من ذلك العيش البشري المجتمعي إلى صفحات كثيرة وتجليات عديدة، مما ينتجه البشر في تاريخ ما، ثم يحولونه إلى فعل مكثف ومتشابك. ومن هنا تأتي المقولة العلمية التالية، وهي أن الشعوب التي تعيش ضمن مراحل متعددة ومتتالية تجد هوياتها وقد برزت في شبكة التداخل بين المجتمعي الثقافي والزمني التاريخي.
ذلك، فيما نرى، هو ما يصنع «الجدلية الذهنية المركّبة» بين المجتمعي والتاريخي، وما يدمج بينهما عبر خطّي تداول يخلصان فيهما إلى «الهوية البشرية»، وفي كل الأحوال يبقى المجتمعي والتاريخي وما يربطهما، الحقل الذي نحدد في ضوئه جدلية الهوية والتاريخ.
نعم، برز الآن بعض الاضطراب في الدواخل والخوارج القائمة على تلك الهوية، ولكن عبر نظرية نقدية فاحصة تقر بالمجتمع والتاريخ وبما يجعل منهما بنية واحدة، يمكن أن نستخرج من ذلك كله حيثيات الجدلية المعنية، ليصبح الأمر قابلاً للخرق فيما يوحّد بين المجتمعي والتاريخي.