«انتصار» فوق الركام: أولويات ما بعد حلب

tag icon ع ع ع

لبيب النحاس – الحياة

لا شك في أن حلب ستكون نقطة فارقة في تاريخ الثورة السورية. لكن على عكس ما يتصوّر البعض، فإن نقطة التحول هذه ستكون في مصلحة الثورة. ولو وضعنا جانباً العنصر العاطفي في التحليل، سنجد أن الانتصار الوحيد الذي حققه النظام معنوي داخلي ودولي ساهم بعض الثوار، من دون قصد، في الترويج له عندما صوروا معركة حلب على أنها «أم المعارك»، وهذا خطأ عسكري وإعلامي على حد سواء، لأننا كنا أمام معركة حصار، ومعارك كهذه، كما خبرنا على مدى الثورة وكما أشار إليه كلاوسفيتز وماكيافلي وغيرهما، يجب عدم تحميلها ثقلاً كبيراً إعلامياً أو معنوياً، سواء في حالة الدفاع أو الهجوم، لأنها معارك غرمها عظيم ومغنمها قليل واحتمالات نجاحها ضئيلة، خصوصاً أنها لم تكن معارك استراتيجية من الناحية العسكرية.

تمكّن النظام من تصوير حلب إعلامياً على أنها «نصر تاريخي» وفق توصيف رأس النظام، ساعده في ذلك صحافيون يعملون في الإعلام الغربي من جهة، وعاطفية بعض الإعلام الثوري من جهة أخرى، ناهيك عن سذاجة البعض، لكن ما حقيقة هذا النصر »التاريخي»؟

حلب لم تسقط ولم يتم «تحريرها» كما زعم النظام، بل تم تدميرها، وتهجير أهلها الذين هربوا من النظام بدلاً من أن يذهبوا إليه، ولم يبق منهم في حلب الشرقية إلا من عجز عن الخروج، لا سيما بعد أن رأوا كيف يعامل النظام وحلفاؤه الطائفيون من يعود ولو مكرهاً الى «حضن الوطن!»، وما رشح من أنباء عن إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية وحالات اغتصاب بحق المدنيين في حلب الشرقية. وما يجب التذكير به، أن هذا «النصر التاريخي» الإجرامي المزعوم تم بفضل الميليشيات الشيعية والغطاء الجوي الروسي، فأي نظام هذا، وأي مستقبل ينتظر سورية والمنطقة في ظل مثل هذه المنظومة الإجرامية الطائفية.

معركة حلب كشفت أموراً كثيرة ، بينها أن النظام في أسوأ حالاته عسكرياً وسياسياً. من الناحية العسكرية، فإن قوات النظام فضلاً عن عجزها عن تحقيق أي نصر حقيقي في السنة الأخيرة، فإنها في أعلى حالات الترهل والتفكك وانخفاض الروح المعنوية. وكما تشير تقارير روسية، فإنه من الأسهل بناء جيش جديد بدلاً من محاولة إعادة هيكلة الجيش الحالي وترميمه، ولعل أبرز هذه التقارير ذلك الذي كتبه العقيد الروسي المتقاعد ميخائيل خودارينوك، الصادر في أيلول (سبتمبر) هذه السنة، وأثنى ضباط روس في الخدمة على هذا التقرير واعتبروا أن الواقع أكثر قتامة مما جاء فيه. وأعقب التقرير الروسي تقرير لـ «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) في كانون الأول (ديسمبر) حول جيش النظام، يؤكد هذا الانطباع الذي ما فتئت الفصائل الثورية تعلنه للمجتمع الدولي منذ أكثر من سنة: إن النظام انتهى عسكرياً والعالم ما زال يبقي على حياة مريض مات سريرياً.

لا شك في أنه كان في إمكان الفصائل الثورية عند نقطة معينة، النجاح بتحرير حلب الغربية وتوجيه ضربة قاسية إلى النظام وحلفائه، لكن معارك حلب كشفت عن أخطاء عسكرية وقصور في الجانب الميداني لدى الفصائل الثورية المسلحة يجب تلافيه وإصلاحه في شكل فوري، فضلاً عن سلوك نمطي بدأ يتفشى بين بعض الفصائل هو أقرب الى سلوك أهل الغلو. لكن بعد فشل محاولات فك الحصار عن حلب الشرقية التي لم تكن لتحقق نتائج طويلة الأمد، وبعد تحوّل حلب الشرقية إلى منطقة ساقطة عسكرية، فإن الخروج منها حرر كتلة عسكرية كبيرة للثوار قوامها حوالى خمسة آلاف مقاتل سيتم استثمارهم في معارك استراتيجية وسيرفع عن الفصائل عبء ومسؤولية الاستمرار في محاولات مستقبلية لفك الحصار عن حلب، ويسمح لها بتوجيه قواتها باتجاه معارك تحدث فارقاً حقيقياً في الساحة، فالميدان الآن هو الفيصل أكثر من أي وقت مضى، مع عدم إغفال باقي محاور الصراع.

يجب أن نرسخ انطلاقاً مما سبق، أن النظام لا يملك معارك حاسمة وفاصلة ينهي فيها المعارضة، بل نستطيع القول – بلا أدنى شك – أن المعارضة تملك هذه المعارك، في دمشق والساحل، وحتى لو قُضيَ كلياً على المعارضة بالمفهوم العسكري البحت، فالمعارضة في إمكانها اللجوء إلى أنواع أخرى من الحروب، إضافة إلى الحرب المفتوحة، لأن المعارضة تتمتع بمزايا المنظمات غير المركزية والمفتوحة وفق نظرية أوري برافمان مقابل الهيكلية المركزية المترهلة للنظام الأشبه بـ «بيت العنكبوت» الواهن. والأهم من ذلك، يجب ترسيخ أن الهزيمة لا تكون إلا بفقدان الدافع والإرادة نحو القتال وليس في خسارة الأراضي أو قلة السلاح وقوة العدو. وما دامت العقيدة القتالية حاضرة ومع عبقرية هذا الشعب وإبداعه، سنجد دائماً طريقة لقتال العدو وهزيمته بإذن الله.

سياسياً، كشفت حلب تضارب المصالح الروسية والإيرانية في سورية ودرجة التوتر العالية بينهما. فقد سعت إيران الى إفساد مشروع أي اتفاق يُبرم بين روسيا والثوار حول حلب الشرقية أو أي بقعة أخرى في سورية، ما دفع بالروس الى تهديد إيران والنظام في صورة مباشرة بقصف قواتهم في حال حاولوا تعطيل الاتفاق الأخير الذي أدى إلى خروج أهالي حلب الشرقية مع الفصائل الثورية المسلحة.

لا شك في أن هناك تناقضاً صارخاً بين المشروع الروسي القائم على فكرة سورية موحدة تُدار من حكومة مركزية قوية وفق مشروع غير طائفي، وبين المشروع الإيراني القائم على إضعاف الحكم المركزي وإنشاء مناطق نفوذ وسطوة إيرانية كاملة تؤمن لها معبراً برياً من إيران إلى لبنان، هذا كله ضمن مشروع طائفي صريح يتضارب مع رؤية روسيا. والسؤال هنا: هل سيتمكن الثوار من استثمار هذه التناقضات؟

تلك التناقضات جعلت النظام ينقسم على نفسه بين موال لإيران ومشروعها وموال لروسيا ومشروعها وبين من بدأ يشعر بأن سورية ضاعت بسبب حماقات رأس النظام الذي مارس «المناورة» السياسية مع الروس حيناً، وزواج المصلحة الأيديولوجي مع إيران حيناً آخر، في الوقت الذي يقتل «شعبه» ويدمر سورية للحفاظ على كرسيه. روسيا لم تعد ترى في رأس النظام شريكاً حقيقياً، وبدأت تبحث عن البديل الذي يضمن مصالحها وسط استياء عميق من فشله العسكري وعجزه عن إدارة الصراع وتعنّته وميله الى الطرف الإيراني، وهو الطرف نفسه الذي لن يعارض استبداله في حال توصلت القوى الإقليمية والدولية إلى حل مرضٍ للأطراف، لا سيما بعد اعتراف الروس رسمياً بالفصائل الثورية المسلحة كطرف شرعي في الحرب في سورية. طبعاً هذا لا يغير حقيقة أن روسيا ارتكبت جرائم حرب ضد السوريين وسترتكب المزيد، لكن يعكس تحولاً جديداً مهماً في الساحة، لا سيما مع تنامي الدور التركي.

ولعل المعركة السياسية التي تنتظر الثورة والتي بدت ملامحها في الهدنة الشاملة التي تحاول روسيا فرضها كجزء من الحل السياسي الشامل لسورية، لن تقل ضراوة عن المعركة العسكرية التي ستتضح معالمها في الأسابيع المقبلة، وسنعرف إلى أي مدى ستدفع روسيا عسكرياً قبل أن تقرر أن موسم الحصاد السياسي قد حان، وإن كانت المؤشرات والأحداث تشير إلى أن الروس بدأوا الحصاد، وهذا لن يروق للنظام الذي يأمل بالحسم العسكري الكامل. ولعل أخطر ما سينجم عن أي عملية سياسية ترعاها روسيا هو محاولة نقل الصراع من حرب بين ثوار بشرعية شعبية ضد نظام مستبد ساقط إلى نزاع بين معارضة وحكومة شرعية تحت «سقف الوطن». وبغض النظر عن التحديات وتضارب مصالح أعدائنا، سنظل كثورة عاجزين عن مواجهة التحديات واستثمار التناقضات والفرص المتاحة ما لم نتبنّ خطاباً جديداً ورؤية موحدة وندفع بقيادات جديدة على مستوى الحدث.

كشفت حلب عيوباً وأخطاء عميقة في أداء الفصائل الثورية المسلحة في شكل عام، والثورة مطالبة الآن بمراجعات سريعة وقاسية وصادقة تتمخض عنها رؤية جديدة وخطاب جديد، ويصحبها تطوير نوعي للعمل العسكري والسياسي بما يتناسب مع المرحلة المقبلة، غير أن حلب – في الوقت نفسه – قد تعطي الثورة الفرصة للتحرر من قيود الماضي، وكسر القوالب والانطلاق بزخم متجدد إذا تمكنت من اتخاذ القرارات الصحيحة، وعلى رأسها الوصول إلى النموذج الصحيح لتوحيد الساحة عسكرياً وسياسياً، ولتعمل في شكل مستعجل على طرح خطاب ثوري وطني يحمي هوية سورية، خطاب حرب تحرير واستقلال شاملة يتم فيه حشد كامل الطاقات الثورية تحت سقف مشروع واحد، برؤية مشتركة واضحة تعيد الأمل إلى الحاضنة وتقدم الثورة السورية إلى العالم بحلة جديدة تعود بها إلى جذورها الثورية الصادقة بعيداً من أي أيديولوجية، فالثورة لن تكون قادرة على الاستمرار ما لم تنتج قيادة جديدة موحدة عسكرية – سياسية قادرة على استثمار الفرص واللعب على التناقضات الدولية، وبمرجعية شرعية تعكس التنوع الفكري في سورية في صورة حقيقية وصادقة.

أثبتت الثورة قدرة هائلة على امتصاص الصدمات والنهوض من بين الرماد، ولن تكون حلب استثناء، وعلى العالم أن يترقب عودة الفصائل بقوة وشراسة أكبر، لكن هامش الأخطاء انتهى، والقرارات التي سيتم اتخاذها في الأسابيع المقبلة قد تكون مصيرية على الأقل للمرحلة المقبلة. النظام انتهى فعلياً، إلا أنه يجب على الثورة أن تجيب عن أسئلة ملحّة وتتّخذ إجراءات سريعة وشجاعة وربما مؤلمة، وأن تعي أن المعركة الحقيقية الآن إلى جانب المعركة العسكرية والسياسية هي معركة الحاضنة والشرعية الداخلية والدولية.

* المسؤول عن العلاقات السياسية الخارجية في حركة «أحرار الشام»

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة