لا يحتاج المستبد عادة إلى حجة ليجلد بها معارضيه ويكبلهم، فكل مقدرات البلاد بيده، ولا معاقب على ما يفعل ولا سلطان عليه يحمي الناس من بطشه.
ومع ذلك فإنه مضطر أحيانًا أن يشرعن ما يفعله، لا سيما تجاه الخارج والمنظمات والدول التي قد تحاججه يومًا ما، وتفتح ملفات حقوق الإنسان في بلاده.
في سوريا دأبت الأنظمه الشمولية على شرعنة الديكتاتورية والقمع عبر استنادها إلى جملة من القوانين، التي استخدمتها كواحدة من الآليات التي تكتم بواسطتها أفواه من يتجرأ ويعارض.
إن المتعارف عليه في علم الإجرام والعقاب أن تكون نصوص القوانين الجزائية مصاغة من تعابير دقيقة وواضحة لا تحتمل التأويل، بينما نجد أن ما يميز قوانين “المستبد” هو صياغة نصوصها بأساليب مرنة غامضة تشتمل على تعابير فضفاضة غير محددة، تكاد تستغرق كل تصرف وتشمل أي إنسان.
والقصد من ذلك هو أن تكون سلطة القاضي التقديرية واسعة في الدعاوى التي تعرض عليه والتي يطبق فيها تلك النصوص، مما يترك المتهم أسير مزاجية القاضي المرتهن غالبًا لإرادة السلطة وأجهزتها الأمنية، باعتبار أن “السلطة القضائية” برمتها قد صودرت من قبل المستبد وتحولت لأداة من أدواته.
على هذا المبدأ سارت الدكتاتوريات السورية، فعدا عن قانون العقوبات الذي تتسم مواده المتعلقة بالجرائم الواقعةة على أمن الدولة الداخلي والخارجي بعموميتها وعدم دقتها، نلمس ذات الأمر في كل القوانين والمراسيم التي صدرت بعد وصول البعث إلى السلطة.
فالمرسوم رقم 6 لعام 1964 يعاقب كل من يناهض أهداف الثورة ويقاوم تطبيق النظام الاشتراكي بالقول أو بالكتابة أو بالفعل بالسجن مدى الحياة، وتصل العقوبة في حال التشديد إلى الإعدام.
من الواضح أن هذا النص يكاد يفسر بألف وجه ووجه ليشمل أي فعل لا ترضى عنه السلطة، وتم بالفعل الاستناد عليه بشكل متكرر وواسع في تبرير اعتقال المعارضين ومحاكمتهم.
ولا يختلف عنه المرسوم التشريعي رقم 4 لعام 1965، والذي تضمن: من أقدم بأي وجه من الوجوه على عرقلة تنفيذ التشريعات الاشتراكية يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة ويجوز أن تصل العقوبة تشديدًا للإعدام.
إضافة إلى هذين المرسومين هناك قوانين أخرى استخدمت في تبرير عمليات الاعتقال، ومنها القانون 49 لعام 1981، وهو قانون خاص استثنائي نص على الحكم بالإعدام على كل من ينتمي لجماعة “الإخوان المسلمون”، حتى لو لم يقدم على أي عمل أو لم يرتكب أي جرم آخر، ولعل أكثر ما يثير الغرابة في هذا القانون، والذي مايزال معمولًا به حتى اليوم، هو سريانه بأثر رجعي، بحيث يشمل كل منتم للجماعة المذكورة حتى لو كان انتسابه سابقًا لصدور القانون.
أما قانون المطبوعات رقم 50 لعام 2001، فقد وضع عقوبات تصل للسجن ثلاث سنوات لتهم غامضة وغير محددة، كالمس بالشعور القومي، المس بالجيش، المس بوحدة المجتمع، وإذاعة أنباء كاذبة، وترك المجال للقضاء “غير الحيادي” لتوجيه التهم للإعلاميين الذين قد يعترضون على حالات الخلل الموجودة في الدولة، كما ترك القانون سلطة المنح والمنع لإصدار المطبوعات في يد وزير الإعلام ورئيس مجلس الوزراء. كذلك ظل منح التراخيص للمراسلين للصحف العربية والأجنبية بيد وزير الإعلام دون أي ضوابط قضائية أو إدارية، ما يعني أن السلطة التنفيذية قادرة بسهولة على لجم أي صوت يزعج الاستبداد.
ولا شك أن قانون العقوبات العام السوري كان متكأ رئيسيًا للسلطات الأمنية لتبرير اعتقالات المعارضين، ومستندًا للمحاكم في قراراتها التي كانت تدينهم. ولعل أهم المواد التي استخدمت كانت تلك المتعلقة بإدانة أي سوري حاول بأعمال أو خطب أو كتابات أو بغير ذلك، أن يقتطع جزءًا من الأرض السورية ليضمه إلى دولة أجنبية، أو من قام في سوريا في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية، وهما التهمتان اللتان كانتا توجهان في الغالب للكرد السوريين أو من يظهر تعاطفًا مع قضيتهم من باقي المكونات.
كذلك استخدمت كثيرٌ من المواد التي تتعلق بوهن نفسية الأمة وإثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة، وكذلك كان الانتماء للجمعيات والأحزاب غير المرخصة تهمة جاهزة للعديد من المعارضين.
ولا بد من ذكر قانون مكافحة الإرهاب، الذي صدر كبديل “لئيم” عن كل التشريعات المتعلقة بحالة الطوارئ، والتي رفعت بعد بداية الثورة السورية. فهذا القانون يحمل تعابير فضفاضة وغامضة يمكن تفسيرها وفق هوى المستبد وأدواته، وأضاف جريمة جديدة لا مثيل لها في أي قانون سابق، وهي استخدام وسائل التواصل الإلكتروني، إذ نصت المادة 8 منه: “يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة كل من قام بتوزيع المطبوعات أو المعلومات المخزنة مهما كان شكلها بقصد الترويج لوسائل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية، وتنزل العقوبة نفسها بكل من أدار أو استعمل موقعًا إلكترونيًا لهذ الغرض” .
يمكننا القول إن ما أوردناه هو جزء وليس كل القوانين والنصوص التي استخدمت في هذا الإطار، وإنما هناك الكثير من المواد القانونية كان يمكن أن تكون وسيلة من وسائل قمع المعارضين وتبرير اعتقالهم ومحاكمتهم، دون أن ننسى أن “الخِّسة” كانت تصل أحيانًا بأجهزة أمن النظام السوري إلى تلفيق تهم غير أخلاقية لبعض المعارضين، بغية الانتقام منهم وتشويه سمعتهم في الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه.