عنب بلدي – حنين النقري
كوقع أيّ شيء جديد في المجتمع، استقبل معظم السوريين الهواتف المحمولة أوائل الألفية الثالثة باستهجان وتخوّف، تحوّلا لاحقًا مع ظهور الهواتف الذكيّة إلى استنكار شديد لهوس الشباب بها، وانشغالهم باستخدامها في الجلسات وأثناء الحديث. لكن الأمر لم يستمرّ على هذه الشاكلة، والأداة التي حلّت منذ عقدين كضيف غير مرحّب به بين السوريين، صارت اليوم أشبه بوطن كامل، في جيوبهم.
“هاتفي هو ما أوصلني إلى هنا”، هكذا تصف مروة، لاجئة سورية في ألمانيا، علاقتها بهاتفها الذكيّ، مشيرة إلى زجاج شاشته المكسور “انكسر زجاج شاشته أثناء طريقنا من اليونان إلى ألمانيا، خاض معي هذا الهاتف مغامرات (أكشن) كثيرة أثناء الهروب من الشرطة الهنغارية، وعن طريق تحميل تطبيق خرائط أوفلاين، أرشدني لطريقي دونما اتصال بالإنترنت، رغم سوء حاله اليوم إلا أنني وفيّة له”.
كمعظم السوريين اللاجئين، ماتزال مروة تستخدم هاتفها كبوصلة بعد سنة من إقامتها في ألمانيا، تقول “يحلو لي المشي في شوارع أجهلها، مزوّدة بالفضول وبميزة تحديد المواقع GPS، عن طريقه أجوب أماكن لا أعرفها، أصل للمكاتب الحكومية التي أقصدها دون أن أخشى السؤال أو أتلكأ باللغة، لا أتخيل حالنا نحن اللاجئين دون هواتف ذكيّة تسهّل علينا المعيشة، وتخفف عنا الغربة”.
الترجمان والمعلّم
بالإضافة لتطبيقات الخرائط، يستعين رفيق، وهو مهندس من حماة مقيم في تركيا، بهاتفه الذكيّ لتسهيل التواصل مع الأتراك عن طريق تطبيقات الترجمة المختلفة، يقول “قدمت إلى تركيا منذ عامين، ولم أكن أعرف كلمة تركيّة واحدة، لكنني تمكّنت من زيارة مدينة لا يقصدها السوريون واستئجار منزل والتفاهم مع صاحبه، وتواصلتُ مع الجيران وأوصلتُ لهم حكاية الثورة السورية، كل ذلك كان بالاستعانة بتطبيق ترجمة على هاتفي الذكيّ”.
لم يستمر رفيق باستخدام هاتفه الذكيّ كترجمان، إذ بدأ البحث عن تطبيقات لتعلّم اللغة التركية، يشرح لنا تجربته “لم يكن بإمكاني تسجيل دورات لتعلّم اللغة التركية لغلاء أسعارها، ولهذا لجأت لتطبيق مجانيّ لتعلّم اللغة، خلال ثلاثة أشهر فحسب من الدراسة اليوميّة باستخدامه صرتُ قادرًا على إجراء محادثة بسيطة”.
ورغم وصوله لمستوى يسمح له بتسيير أمور حياته اليومية البسيطة لم يتوقف رفيق هنا، إذ كان يتطلع لإتقان اللغة بشكل أكبر وفتح أبواب أكثر في علاقاته مع محيطه، وهو ما دفعه لإتمام الـ 66 درسًا التي يضمّها التطبيق، يتابع “بعد أن أنهيتُ كامل دروس التطبيق وجدتُ تطبيقًا آخر بمستوى أعلى، ولأنه لم يكن مجانيّا اشتريتُه وبدأتُ التعلّم به، بعد عام ونصف من التعلّم الذاتي وصلت لمستوى B2 باللغة عن طريق هاتفي الذكي فقط”.
محطّة عمل عن بعد
بوصلة، ترجمان، معلّم، وبعدها الكثير، إذ لم يتوقّف استخدام السوريين للهاتف الذكيّ هنا، وبدؤوا يبحثون عن إمكانيات أخرى يتيحها لهم، وهو ما استطاعت أن تستغلّه مروة لتجد عملًا لها أثناء إقامتها في مخيّم للاجئين، تقول “لم أحمل معي من سوريا إلا هاتفي، ومهاراتي الشخصيّة، لكنني آمنت أنني طالما أستطيع الوصول للإنترنت فمن الممكن أن أعثر على عمل وأكون منتجة رغم وجودي في الكامب، بالفعل وُفقتُ بالعثور على موقع للعمل الحر، واستلام مقالات للترجمة بأجر لا بأس به”.
من خلال شاشة بقياس 4 إنش فحسب، بدأت مروة عملها بالترجمة، تقول “باستخدام محرر نصوص بسيط، وقاموس أستعين به لترجمة ما يصعب علي من الكلمات ترجمتُ عددًا جيدًا من المقالات خلال مدّة قصيرة، بالطبع لم تكن تجربة الترجمة عبر الموبايل سهلة، الجهاز بطيء بسبب قِدمه والشاشة صغيرة ومكسورة، كما أن لوحة مفاتيح الهاتف لا تتيح الكتابة بسرعة، لكنني كنتُ أرغب بالعمل فقط”.
بعد فترة من استخدامها الهاتف للترجمة، استطاعت مروة أن تدّخر من أجور ترجماتها ثمن جهاز لوحيّ بشاشة أكبر، تقول “لم يكن لديّ مال يمكنني من شراء حاسوب كامل، فاشتريتُ جهازًا لوحيًا بشاشة 8 إنش، ووصلتُه إلى لوحة مفاتيح خارجية، وهكذا صار لديّ إمكانية للعمل بشكل أسهل وأسرع”.
تلفاز صغير
بتلهّفٍ تقلّب الحاجة أم منير أخبار الصفحة الرئيسية في موقع الفيسبوك، لتقرأ عن مدينتها في الغوطة الشرقية وتطمئنّ إلى حال أبنائها فيها، تقول “ابني هو من اشترى لي هذا الجهاز وأنشأ لي حسابًا على موقع فيسبوك قبل أن نخرج من الغوطة، مازال هو فيها وأنا الآن في تركيا، لكنني أستعين بهديته هذه لأطمئنّ على أخباره من خلال صفحات التنسيقيّات والإعلاميين، الله يحميهم”.
تضيف أم منير أنها تستخدم هاتفها كبديل عن التلفاز، غير المتوفّر في بيتها الحالي، لمشاهدة مقاطع الفيديو وسماع القرآن، تتابع “تستخدمه ابنتي الصغيرة لمشاهدة المسلسلات وأفلام الكرتون أيضًا، جهاز صغير لكنه يعوّض عن وجود تلفاز في البيت”.
“جروب العيلة”
إضافة للتنسيقيات، تستعين أم منير بهاتفها الذكيّ للمّ شمل شتات أبنائها المنتشرين في بقاع مختلفة من سوريا والعالم، وتوضح “أنشأت ابنتي مجموعة على الواتساب، وأضافتنا إليها جميعًا، هكذا نتمكن من إجراء محادثات جماعيّة، والاطمئنان على أخبار بعضنا البعض، عندما نجتمع كلنا في وقت واحد ونتبادل الأحاديث والضحك أشعر أن أبنائي وبناتي مازالوا حولي، أحمد الله أنهم بخير رغم البعد”.
وتشير الحاجة أم منير إلى انتشار المجموعات في محيطها بكثرة، تقول “لديّ مجموعة مع أخواتي وإخوتي، وكلّ منهنّ لديها مجموعة خاصة تضمّ أبناءها المشتتين، كذلك اشتركت بمجموعة لأخبار الغوطة الشرقية، وهو أمر يسهّل علينا التواصل والوصول للأخبار بسرعة”.
“أحكي مع أبنائي كلما توفّر لهم الإنترنت” تقول أم منير برضا، وتتابع “محادثات الواتساب مجانية، كما يمكننا تبادل الصور وهكذا أطمئن على حالهم أكثر، لو كنا محصورين بالمحادثات الدوليّة لتكلّفنا مبالغ هائلة، وما تمكّنت من سماع صوتهم كل يوم”.
مكتبتك بين يديك
افتقدت ميساء، مهندسة مقيمة في تركيا، بخروجها القسريّ من بيتها في حمص الكثير، لكن كان أكثر ما افتقدته هو كتبها ومكتبة والدها، تقول “عندما لا تجدني والدتي في أنحاء المنزل كانت تبحث عني بين كتب والدي، ومنذ تعلّمت القراءة أمضيتُ كل سنوات عمري بعدها بين الكتب وفي مكتبات حمص، وعندما لا أجد كتابًا أوصي عليه من مكتبات الحلبوني في دمشق، لكن هذا كلّه تغيّر عندما انتقلنا إلى تركيا”.
لا تضمّ المدينة التي تقطن فيها ميساء بتركيا مكتبات تبيع كتبًا باللغة العربية، ولم توفّق حتى اللحظة بإمكانية شحن الكتب مجانيًا إلى تركيا وهو ما جعل الأمور عليها أصعب، تشرح “المواقع التي تشحن الكتب مجانيًا لا تتعامل إلا ببطاقة الباي بال غير المتوافرة في تركيا، أما المواقع الأخرى مثل (النيل والفرات) فأجرة شحن الكتاب فيها تزيد عن ثمنه الأصلي، كل هذا حرمني من الكتب الورقية خلال الأعوام الثلاثة الماضية”.
رغم عدم توافر الكتب الورقية لميساء إلا أنها لم تتوقف عن القراءة، وكان المعين لها في ذلك هاتفها، تقول “أعوّض عن عدم وجود الكتب الورقية بالكتب الإلكترونية، أحمّل الكتب التي أريد على هاتفي من الإنترنت وأقرأ، أما الكتب التي لا أجدها فأحاول أن أبحث عن نسخ إلكترونية مدفوعة الثمن لها، بهذا الشكل قرأت عشرات الكتب، واستعضتُ عن مكتبتي في حمص، بمكتبة أخرى في جيبي، أحملها حيث أريد”.