الجين الشامي

  • 2013/09/09
  • 2:42 م

عنب بلدي – العدد 81 – الأحد 8-9-2013

عتيق – حمص
لم تحظ ظروف وسياقات الثورة السورية بدراسات تحليليّة كافية بعد، وليس في هذا ما يُستغرب، فالثورة لا تزال تناضل منذ عامين ونصف في تحقيق هدفها الأول، أي إزاحة الفئة المستبدة عن سدّة الحكم، وتفتيت أذرعها العسكريّة، وما يرافق ذلك من ظروف إنسانيّة صعبة، وعدم استقرار، ومناخات غير ملائمة  لعمل تلك الدراسات.
ولعلّ من أبرز المواضيع الجديرة بالنظر والتفكير، الطاعة التي يبديها الدمشقيّون عمومًا لحكّامهم على مرّ التاريخ، منذ تسلّط بني أمية على الحكم بالغلبة وإراقة الدماء، مما صار سُنّة اتبعها من بعدهم، أي بنو العباس، ومن ثمّ بنو عثمان، وحتى الانقلابات العسكريّة المتكررة التي شهدتها فترة ما بعد خروج المستعمر الفرنسي عن أرض البلاد.
لم تكن السنّة السيئة التي أحدثها بنو أمية في التاريخ العربيّ، وأورثوها لمن بعدهم، الاستبداد فحسب، إذ ليس الاستئثار بالحكم بدعةً هم من أوجدوها، لكنّ المصيبة الحقيقيّة التي عبّر عنها رسول الله بقوله في الحديث الصحيح {هلكة أمتي على يد غلمة من قريش}، كانت في توظيف المقولات والنصوص الدينيّة لتخدم فكرًا يخدّر العقل، ويسلّم قياده للغير، ويجعل من الطاعة محور الثقافة المعيشة، لذا تمّ تقريب علماء الدين من السلاطين، لصالح إعادة صياغة العقل والوجدان العربيّ وفقها.
فكان من تقديس رجال الدين، مدخلًا لتقديس كلامهم، وجاء كلامهم مقدِسًا للسلاطين، مباركًا لهم، حاثًا على العيش في كنفهم وظلهم، ومهما بلغت درجة السوء التي وصل إليها بعض حكام دمشق، فقد كان مشايخها يتأقلمون معه، ويتناغمون مع سياسته، وأفكاره، وإرادته، لينقلوا هذا التناغم إلى مجتمعهم ومحيطهم.
في الحالة النموذجيّة فإنّ الطفل الدمشقيّ منذ سني عمره الأولى، يُتعهد بالرعاية والتأديب الدينيّ بالنسخة الشاميّة، عن طريق الآنسات (ما يعرف باسم القبيسيّات)، في فترتي الحضانة، والروضة، وحتى منتصف المرحلة الابتدائيّة، لتنقل عهدته بعد ذلك إلى شيخ المسجد، وتشيع ظاهرة الدروس الدينيّة اليوميّة في دمشق (وحلب) بشكل كبير، مما يشكّل سمةً عامةً للمجتمع، خلافًا لباقي المحافظات التي لا تشهد إقبالًا بهذه الكثافة على الدروس والحلقات (في حمص على سبيل المثال، تقتصر الدروس الدينيّة على يومي الاثنين والخميس، وفي عدد ضئيل من مساجد المدينة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ويحضرها من بضع عشرات إلى بضع مئات أحيانًا)، وهكذا في الصيف والشتاء، مع تتالي السنين، يبلغ الشاب الدمشقيّ ربيعه الثامن عشر، وقد تشرّب بنجاح الثقافة الدينيّة بنسختها الشاميّة، والتي يبرز بها تقديس المشايخ و «الكباريّة»، وطاعة الأهل.
لذا فإن الحديث عن ضعف الحركة الاحتجاجيّة والثوريّة في شوارع دمشق، وعدم شهودها لحالات ملحميّة كتلك التي شهدتها باقي المحافظات، إنما يجب أن يسبقه الحديث عما كان يدور في المنازل، بين جيل الشباب (النسغ الحقيقيّ للثورة، بوجهها السلميّ على الأقل)، وبين الآباء، الذين كانوا يقفون بالضدّ من مشاركة أبنائهم.
في المنازل، سنرى النسخة المصغّرة من الثقافة الشاميّة، حيث لا كلام يعلو فوق كلام الأب – السلطة (الذي كثيرًا ما يكون مدعمًا بالشواهد والنصوص الدينيّة، المتحدثة عن الفتن، وطاعة وليّ الأمر، واجتناب السياسة)، بل لا محاولة أصلًا لتحديّ هذا الرمز المقدّس، والخروج عنه، ليس لقلة الشجاعة فحسب، لكن لأن التكوين النفسيّ والفكريّ، أسس شخصيّة الشاب كي لا تكون حاضرة في مثل هذه المواقف، فرغم أنه ضدّ ما يقوله والده، لكنه لا يجرؤ على مخالفته، فضلًا عن تحديه «وكسر كلمته»، على عكس  شباب الثورة في باقي المحافظات، حيث ينتشر الانسلاخُ عن ثقافة الآباء ومخاوفهم.
لا بدّ من أن تحظى البيئة الشاميّة بدراسات حقيقيةٍ جادة، لفهم بنيتها ومكوناتها، تمهيدًا لتفكيكها، لأنها في الحقيقة باتت تشكّل أزمة جيلٍ كامل، لا يجد في نفسه القدرة على تجاوز ما أُسس عليه، رغم رفضه له.

مقالات متعلقة

فكر وأدب

المزيد من فكر وأدب