عنب بلدي – عبادة كوجان
سقطت حلب الشرقية بيد الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، وما هي إلا أيامٌ قليلة ويغلق ملف المدينة كليًا، عقب استكمال خروج المهجرين منها، ليكون مصيرها مشابهًا لحمص والقصير والقلمون الغربي والغوطة الغربية في ريف دمشق، وربما مناطق أخرى في سوريا لاحقًا.
إلا أن السقوط السريع للأحياء كأحجار “الدومينو”، في مدة زمنية لم تتجاوز شهرًا واحدًا، أثار استغراب كثيرين، فيما لو صحت المقارنة بحمص القديمة أو داريا على سبيل المثال، وهي مناطق ذات مساحات ضيقة جغرافيًا قياسًا بحلب الشرقية، وقاومت الحصار ومحاولات الاقتحام شهورًا طويلة.
ونستعرض هنا، خمسة أسباب تبدو منطقية للسقوط السريع لأكثر من 25 حيًا، ابتداءً من مساكن هنانو وانتهاءً بحي الكلاسة، لترحّب المعارضة مجبرةً باتفاقية روسية- تركية، تقضي بخروج مَن تبقى من الأهالي والمقاتلين باتجاه الريف الغربي.
قيادة إيرانية– روسية للمعارك برًا وجوًا
لم يكن لضباط الأسد والقادة العسكريين الذين تكرر خروجهم إعلاميًا في الآونة الأخيرة، أمثال العقيد سهيل الحسن واللواء زيد صالح، دور في التخطيط للعمليات في محيط المدينة وصولًا إلى أحيائها، بل تولى المهمة جنرالات في “الحرس الثوري” الإيراني، بإشراف مباشر من الجنرال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس”، والذي زار المحافظة مرارًا خلال العامين الفائتين، عدا عن زيارات لقادة ميليشيات عراقية تنضوي في “الحشد الشعبي”، والذي بات مؤخرًا مؤسسة “وطنية” تابعة للجيش العراقي.
العميد جواد غفاري، القيادي البارز في “الحرس الثوري” الإيراني، وأحد القادة الميدانيين في الحرب الإيرانية- العراقية، عيّن قائدًا عامًا للقوات الإيرانية والميليشيات الشيعية في سوريا منذ ثلاثة أعوام، عقب تجميد دور اللواء حسين همداني، والذي قتل في تشرين الأول 2015، في ظروف غامضة، بحسب معلومات حصلت عليها عنب بلدي من مصادر مطّلعة.
منذ حزيران 2014، عمد غفاري إلى استقدام ميليشيات عراقية بشكل أكبر مما كانت عليه في سوريا، واعتمد في خطته على التقدم من الريف الجنوبي والشرقي للمحافظة وحتى ريفها الشمالي، مستعينًا بثلاث ميليشيات رئيسية تسانده في المعارك، وهي “حزب الله” اللبناني، وحركة “النجباء” العراقية”، ولواء “فاطميون” الأفغاني، عدا عن نحو 15 ميليشيا أخرى تقاتل في حلب.
بالتوازي مع الدور الإيراني في قيادة معركة حلب برًا، تكفّلت روسيا بتأمين غطاء ناري جوي وصاروخي للمعارك، وتركزت هجماتها على البنى التحتية للأحياء الشرقية منذ مطلع العام الجاري، لتحدث دمارًا مماثلًا لما أحدثته في العاصمة الشيشانية غروزني من حيث نوعية الهجمات المعتمدة على الصواريخ البالستية والقنابل العنقودية والارتجاجية والفراغية، ويفوقه من حيث الأضرار المادية والبشرية، بالنظر إلى الرقعة الجغرافية المستهدفة.
منذ منتصف تشرين الثاني الفائت، استأنفت القوات الروسية هجماتها بتصعيد هو الأكبر من نوعه في سوريا، وتسببت الهجمات بمقتل ما لا يقل عن 1500 مدني وإصابة مئات آخرين، وتدمير معظم مستشفيات المدينة ومراكزها الصحية والإغاثية والتعليمية، بحسب الدفاع المدني، ما مهد الطريق بسهولة لاقتحام حلب الشرقية.
معارك مكلفة من الجنوب برؤية “خاطئة”
عقب إطباق الحصار على حلب الشرقية في حزيران الماضي، ردت فصائل المعارضة المنضوية في غرفة عمليات “جيش الفتح” بإطلاق معركتين منفصلتين في آب وتشرين الأول، بغية فك الحصار من المحور الجنوبي، لكن كلتا المعركتين فشلتا في تحقيق أي من أهدافها، وتكبدت الفصائل المشاركة خسائر بشرية ومادية باهظة.
المعركة الأولى أطلقتها الفصائل من محور الراموسة في 31 حزيران، وحققت نجاحًا جزئيًا بفتح ثغرة نحو الأحياء الشرقية، لكنها انتهت بفشل ذريع إثر استعادة قوات الأسد وحلفائه معظم المكتسبات، وعادت خلال شهر واحد إلى نقطة الصفر، وعاد الحصار مجددًا ليعصف بأهالي “الشرقية”، وكلّفت الفصائل المشاركة نحو 500 قتيل وخسائر مادية ثقيلة.
بينما انطلقت المعركة الثانية في تشرين الأول الماضي، بهدف فتح ثغرة في أحياء حلب الجديدة والحمدانية، وهو ما تطلب السيطرة على الحيين والأكاديمية العسكرية هناك، لكن شيئًا من ذلك لم يتحقق، وعادت القوات المضادة إلى فرض سيطرتها المطلقة على هذا المحور، وهو ما تسبب بخسائر مادية وبشرية جسيمة لفصائل المعارضة.
اتفقت آراء قادة ميدانيين، استطلعتها عنب بلدي، أن كلتا المعركتين اتسمتا برؤية خاطئة في استنزاف قوى الإيرانيين وميليشياتهم في حلب، فعلى سبيل المثال تسببت معركة خان طومان وتل العيس في آذار ونيسان من العام الجاري بخسائر بشرية جسيمة هي الأكبر من نوعها في صفوف الميليشيات، لتتوقف المعركة في الريف الجنوبي، رغم أن هذه المنطقة تعتبر الخزان البشري لإيران في حلب، ابتداءً من مدينة السفيرة وحتى بلدتي الوضيحي والحاضر.
وأشار أحد قادة “جيش الفتح” إلى أن ضرب المراكز الإيرانية وخطوط إمدادها جنوب حلب، بذات الإمكانيات التي توفرت للمعركتين سابقتي الذكر، كان سيوفر نتائج ميدانية كبيرة، ويتسبب بشلل الميليشيات وعدم قدرتها على التحرك من وإلى حلب.
تناحر الفصائل انعكس على الحاضنة الشعبية
لعل أبرز ما اتسم به السقوط السريع للأحياء الشرقية، هو فرار آلاف المدنيين باتجاه مناطق سيطرة النظام في حلب الغربية، أو مناطق سيطرة “وحدات حماية الشعب” الكردية في حي الشيخ مقصود ومحيطه، الأمر الذي سهّل عملية الاستيلاء على الأحياء وقضمها بأريحية واضحة، وهو ما فتح بابًا للسؤال: لماذا اللجوء إلى مناطق “العدو” وعدم الاحتماء بالأحياء “المحررة” المتبقية؟
تأتينا الأجوبة واضحة، في الاستطلاع الذي أجرته عنب بلدي لبعض الأهالي قبل خروجهم بالحافلات الخضراء إلى الريف الغربي، وفق اتفاق يقضي بتهجيرهم من منازلهم وسيطرة النظام المطلقة على حلب. إنها الحاضنة الشعبية التي لم تعد تثق بالفصائل المقاتلة على الأرض، حيث التشرذم وغياب وحدة القرار والمصير والاندماج المنشود تحت مظلة سياسية تحقق الحد الأدنى من مطالبهم.
وبعكس ما توقع الأهالي في ظل الضربات والهجمات المتتالية للأسد وحلفائه، إذ كانت الآمال متعلقة باندماج جميع فصائل المدينة وريفها على قلب رجل واحد، كان الموقف مغايرًا بازدياد حالات التناحر والخصومة والمواجهات بين أكبر فصائل المدينة، تجمع “فاستقم كما أمرت” وحركة “نور الدين زنكي”، وما تبعها من هجمات ومحاولات استيلاء على المقرات من قبل كتائب “أبو عمارة” وجبهة “فتح الشام”، بالتزامن مع استمرار قضم الأحياء.
استغلال مرحلة “الفراغ السياسي” الأمريكية
بالعودة إلى الدور الروسي، بدا واضحًا استغلال “سيد الكرملين” فلاديمير بوتين، غياب الموقف الأمريكي الواضح لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والسياسة الخارجية الناعمة التي لعبها وزير خارجيته جون كيري، وما تبعها من تطورات دراماتيكية تزامنت مع مرحلة “الفراغ السياسي” الأمريكي في آخر أيام أوباما في البيت الأبيض.
تسريبات غربية كانت نشرتها صحيفة “التايمز” البريطانية مطلع كانون الأول الجاري، أكدت عزم بوتين على استغلال “الفراغ السياسي” وتحقيق “نصر حاسم” لقوات حليفه بشار الأسد في حلب، وهو ما حدث فعليًا بعد السيطرة على معظم الأحياء الشرقية، واقتراب معركة المدينة من نهايتها.
عيوب كبيرة شابت السياسة الأمريكية في تعاملها مع الملف السوري، فظهر الارتباك في معظم القضايا الداخلية، وعدم إحراز توافق بين الكرد وتركيا بشأن الشمال السوري، ما كان قد ينعكس مباشرة على معركة الرقة المتأرجحة، وغياب القرارات الحاسمة بشأن حلب، ما جعل موسكو تظهر وكأنها صاحبة القرار والسيادة في سوريا، فاعتمدت في محادثاتها بشأن إفراغ المدنيين مع تركيا، مجاهرة بتعليق أي محادثات مع واشنطن بهذا الخصوص.
تحوّل أنقرة من الداعم إلى الوسيط
نصّبت تركيا، بزعامة رجب طيب أردوغان، نفسها مدافعًا عن الثورة ضد النظام السوري، وداعمًا للفصائل المقاتلة ضده، طيلة خمسة أعوام مضت، وتوالت تصريحات مسؤوليها بخصوص حلب ودمشق وحماة، بلغة التهديد والوعيد وإعادة الحقوق لأصحابها، وعدم السماح بالمجازر والانتهاكات التي يمارسها الأسد وميليشياته بحق الآمنين.
واحتضنت تركيا نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري، وفق أرقامها الرسمية، وسمحت للمعارضة السياسية بإنشاء مكاتب وإقامة فعاليات على أرضها، كما أنشات مكاتب ارتباط دولية لتقديم الأسلحة والتدريبات لفصائل “الجيش الحر” في المنطقة الشمالية والوسطى، ليخرج أحد أعضاء الائتلاف المعارض قبل نحو عام، ويقول “إذا سقطت حلب ابصقوا في وجهي”.
تحولت تركيا في قضية حلب من الداعم إلى الوسيط مع الروس، لإجلاء المدنيين من الأحياء الشرقية، وربما دعاها لذلك إعادة التطبيع مع روسيا مؤخرًا، وعدم قدرتها على خوض غمار المواجهة السياسية أو العسكرية في المدينة، باعتبارها تولي الريف الشمالي لحلب أهمية قصوى من منطلق أمني قومي، وتدعم غرفة عمليات “درع الفرات” في مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” ووحدات “حماية الشعب” الكردية، على حد سواء، وهو ما انعكس سلبًا على فصائل المدينة، والتي وجدت نفسها دون داعم إقليمي منشود، بل وسيط جلّ استطاعته إنقاذ المقاتلين والمدنيين من القتل أو الاعتقال.
سقطت حلب، ويدور الحديث اليوم عن إدلب أو الغوطة الشرقية أو ريف حمص الشمالي، بينما ذهبت تصريحات بوتين الأخيرة أبعد من ذلك، في نية لإيقاف شامل لإطلاق النار وإطلاق “مصالحات” جديدة على غرار حلب، فهل تتدارك المعارضة السياسية والعسكرية الموقف، أم أنها ستذوب في إطار “التسويات القسرية” التي يراها الأسد انتصارًا، وتذوب معها الحاضنة الشعبية للثورة؟