إبراهيم العلوش
تظاهر السوريون والفرنسيون في قلب باريس ضد سقوط حلب، وأطفأت باريس أضواء برج إيفل في الساعة الثامنة مساء الرابع عشر من كانون الأول الجاري، حزنًا على المجازر وعلى سقوط حلب بيد الجيوش والميليشيات الإيرانية وتحت قصف الطائرات الروسية الغازية.
وتظاهر السوريون والأتراك في اسطنبول أمام القنصليتين الروسية والإيرانية، وفي معظم المدن التركية، وملأت عواصم العالم التظاهرات السورية ضد الاحتلال الروسي الإيراني، الذي يَفلَح المدن السورية، ويحيلها دمارًا وخرابًا مع جيش الأسد الذي يستجر القتلة من كل الأنحاء، لتدمير البلاد وتهجير أهلها.. ليبقى الأسد وإلى الأبد!
لقد دمّر المحتلون المستشفيات، وارتكبوا المجازر وهم يستميتون لاحتلال حلب، درّة الشرق، وشهباء طريق الحرير، وملتقى السياح، والتجار، والصناعيين، إنها حلب التي يتم تدميرها بأيدي الغزاة والطغاة.
في الثمانينيات استمتعت عصابات الأسد بإسقاط حلب، وكانت الفرقة الثالثة والوحدات الخاصة، والميليشيات البعثية تنشر الخوف والخراب في أحيائها وتسلب كرامات الناس على حواجزها التي تحيل الشبان إلى ماكينات الموت، في فروع المخابرات، التي لا يرجعون منها إلا بعد سنين طويلة، هذا إذا قدر لهم البقاء على قيد الحياة بعد جولات التحقيق الوحشية، لقد تحولت فروع المخابرات في تلك الأيام، إلى مراكز كراجات تزدحم بالباصات التي تشحن الشبان إلى المعتقلات في شتى أنحاء سوريا لتسلمهم للموت على أيدي جلادين مصنوعين من الحقد والسواد، ويكنّون الكراهية لكل سوري يحاول أن يقول كلمة، أو رأيًا أو ينتقد ألوهية حافظ الأسد التي أنتجت أخيرًا هذا التسونامي من الخراب.
لقد عانت حلب على أيدي عصابات الأسد الكثير من التدمير والقتل والكراهية، ولعل سحر حلب ومكانتها، وحيوية أهلها وفاعلية صنّاعها وتجّارها، كانت تثير الحنق لدى رجالات النظام، فعاثوا فيها منذ الثمانينيات هتكًا وتخريبًا، ليستعينوا أخيرًا بالحقد الإيراني، وبالوحشية الروسية ورئيسها المتمرس بتدمير المدن وآخرها غروزني التي حولها إلى تراب وخراب.
وفور الإعلان عن سقوط حلب، اختفى مئات الحلبيين على أيدي الميليشيات الإيرانية التي شرعت باختطاف الهاربين من الخراب ومن التدمير، وباشرت مهماتها بالقتل والتعذيب، الذي طالما مارسته بوحشية في العراق، حيث حرصت إيران على نشر آلاف الصور والفيديوهات لمشاهد التعذيب والقتل الذي يمارسه أنصارها، لتروّع من لم يصله الخراب الإيراني بعد.
تراجيديا الثمانينيات تعاد اليوم، وهي لم ترجع كمهزلة مثلما يفعل التاريخ عندما يعيد الأحداث التراجيدية ويكررها على شكل مهازل، بل إنه يعيدها كمأساة أشد تدميرًا وتخريبًا من سابقتها في الثمانينيات، ومنذ اندلاع الثورة، تم تدمير أحياء حلبية بكاملها، وهُجّر سكانها إلى المدن الأخرى، وإلى البلدان المجاورة وغير المجاورة، وقصفت المناطق الصناعية الرائدة على مستوى الشرق الأوسط، وخربت معامل النسيج الحلبي التي نشرت إبداعاتها وصناعاتها الراقية في كل سوريا، وخارج سوريا إلى البلدان المجاورة، وإلى الخليج وحتى إلى أوروبا.
لقد هبّ السوريون في كل بقاع الأرض ليتظاهروا ضد سقوط حلب وضد جرائم المحتلين لحلب، وامتلأت نشرات الأخبار بصور وفيديوهات المحتجين، وفرّ الكثير من الدبلوماسيين الروس في أوروبا من مقراتهم ليمتنعوا عن استلام عرائض الاحتجاج على القصف والدمار وحصار المدن السورية والأحياء الحلبية.
لقد قام السوريون في تركيا، وفي الخليج، وفي الدول الأوروبية، بأعمال عظيمة هزّت صمت العالم وطالبته باتخاذ موقف جاد يليق بإنسانية الحلبيين وبصمودهم، ولم يبق مسؤول في الخارجيات العالمية لم يستجب لتلك التظاهرات.
السوريون اليوم في كل أصقاع الأرض لم يعودوا مجرد لاجئين، بل صاروا قوة حقيقية وفعّالة في المجتمعات المضيفة، وستتصاعد هذه القوة مع الزمن، ومع فهم السوريين للمجتمعات المضيفة أكثر، ومع تنظيم أمورهم وتضامنهم ضد من تسبب بترحيلهم من بلادهم، ومن دمّر بيوتهم وقراهم ومدنهم، سيكونون قوة جماهيرية فاعلة، ولقد أثبتت تظاهرات التضامن مع حلب والاحتجاج على تدميرها، أن اللاجئ السوري اليوم صار قوة تهدد الدول التي تعتدي على بلاده، وسيقوم بالتأثير على كل من يحاول إعادة توطين الظلم والاستبداد في سوريا، فالمهاجرون السوريون يعايشون اليوم مختلف أنواع المجتمعات، ومختلف الديمقراطيات العظمى في العالم، وسيرفدون بلادهم وأهلهم بالمعونة وبالإصرار على رفض الظلم، وفضح من يمارس الفساد، والغطرسة، والتلاعب بمصير السوريين مهما كان قويًا ومهما كان مدعومًا من المافيات أو العصابات أو الدول.
السوريون الذين ملأوا ساحات الاحتجاج في العالم مع أصدقائهم ومعارفهم في المدن الكبرى، وحتى في أصغر القرى النائية، حملوا معهم قضية الحرية، ورفض الظلم والتدمير، وصاروا مؤثّرين، وسيتضاعف تأثيرهم في الغد أكثر وأكثر، ولن تكون سوريا موطنًا للاستبداد بعد اليوم بفضل هذه الثورة، وبمعونة مناصريها الذين ملأوا الدول والمدن العالمية، إنهم قوة سوريا القادمة، والتي يجب أن يحذر منها كل من ينوي الشر لسوريا، ويجب أن يستجيب لها كل من سيحكم سوريا في قادم الأيام، فالسوريون صار صوتهم مسموعًا، وسيتعالى يومًا بعد يوم، ليملأ العالم بهتافات الحرية التي دفعوا ثمنها غاليًا، وخسروا من أجلها ممتلكاتهم وبيوتهم، وهُجّروا من وطنهم، وفروا من القصف ومن التعذيب.
صاح السوريون في قلب باريس:
-الأسد قاتل.. وبوتين قاتل!
وهذا ليس حدثًا صغيرًا أو عابرًا بمقاييس الدول والشعوب التي تحترم آدمية البشر، ولقد بدأت الخارجية الروسية والخارجية الإيرانية تصدران التبريرات والتكذيبات وتدافعان عن الظلم والدمار بالأكاذيب، في محاولة لامتصاص الغضب من أجل حلب التي يحاولون التهامها وتغييرها في غفلة عن العالم، وذلك في موجة من زهوهم وتكبرهم الذي يزين لهم سهولة ابتلاع حلب، وابتلاع السوريين والاستفراد بمن بقي خائفًا في ظل النظام، ناسين بأن حلب الشهباء زرعت جمالها وحبها في قلوب السوريين جميعًا ولن يخذلوها أبدًا.