ليتها تحرقهم
محمد رشدي شربجي
كيوم المحشر، عشرات الآلاف ينتظرون بفارغ الصبر من جحيم ديارهم التي أحالها الحاقد خرابًا، خمس سنوات عجاف لم يتدخل فيها أحد، كانت حرب البلقان قاسية على المسلمين هناك، مئات الآلاف أعدموا بدم بارد، تتحدث التقارير عن أكثر من أربعين ألف مسلمة مغتصبة، ودمار هائل لم تستفق منه البوسنة حتى الآن، كثيرون بكوا وأقسموا الأيمان المغلظة على العودة، وقليلون عادوا.
معركة بيروت أيضًا كانت مستحيلة، حصار إسرائيلي خانق جوًا وبحرًا وجوًا، ودعم أمريكي في كل المجالس، لم تجد منظمة التحرير بدًا من الانسحاب في النهاية، “كم كنت وحدك يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أب، كم كنت وحدك”، بكى جنود المنظمة، أقسموا الأيمان على العودة، لم يعد أحد.
منذ عقود والحكاية نفسها نسمعها بتفاصيلها، حصار مجموعة من الناس يصادف غالبًا أنهم مسلمون، قصفهم بكل أشكال القصف، مرة روسيا ومرة أمريكا، ومن جديد إيران، يخيّرون بين الإبادة أو الخروج، يقررون الخروج، يبكون ويقسمون على العودة، ثم لا يعود أحد.
في القدس، ومن في القدس إلا أنت، والناصرة ومخيم جنين وغزة، في بيروت وطرابلس، في بغداد والفلوجة والأنبار والموصل، في حمص وريف دمشق وحلب، يموت الناس، تعمر الأحقاد مع دمار البيوت، يقسمون على الانتقام والعودة، لا يعود أحد ولا يبقى إلا الثأر.
بعد حلب كتب صديق عزيز أن في قلبه “الحقد ولا شيء غير الحقد”، الذي يحرص يوميًا على “سقايته وتوريثه”. غيره حذّر العالم “بأن الشر القادم”. هناك من كتب مقالًا يدعو فيه إلى “ثورة على العالم”. وكما منذر المصري الذي تطوع بالنيابة عن نفسه وأصدقائه وليتمنى أنها لم تكن، أنا أريد أن أريح نفسي فقط وأقول الشر والعبث والحقد بعينه: ليتها تحرقهم.
أنا أيضًا أيها الأصدقاء، كنت أحلم بدولة لجميع السوريين، بدولة يعيش فيها الإسلام والعروبة بلا عبث، بمجتمع يقبل الآخر كما هو، بمجتمع ليس فيه محيسني ولا جولاني ولا البغدادي ولا غيرهم، ولكن أين لنا بهذا المجتمع وأهل الضاحية تغشيهم من الفرح دماء أطفالنا؟ أين لنا هذه الدولة وفيها حلب الغربية واللاذقية وطرطوس وطهران وموسكو؟
عندما اعتقل يحيى شربجي قلت إن مرحلة من الثورة قد انتهت وبدأت أخرى، المسكين كان يدعونا دائمًا للحب، تخيلوا! كان يؤمن بأن الحب سيفتح قلوب حسين مرتضى، وعندما اعتقل نبيل قلت إن طريق الحرية طويل ونحتاج إلى صبر، وعندما استشهد محمد خير شما وترك طفلًا لم يعرفه، قلت لا بد من تضحية، مات بطل ليعيش غيره، ولكن ماذا يقول المرء أيها الأصدقاء، وقد ذهب غياث وأدهم ومجد ومحمد مطر، وأبو أنس، وأبو يزن، وعدنان وعماد وأبو مصعب ومروان وأبو النور وطارق وفراس ومحمد ومحمود، وأبو إيهاب، وأحمد، هل سمعتم بأحمد شحادة من قبل؟ أي منطق هذا الذي يقول بأن يذهب أحمد ويبقى حسين مرتضى في سوريا؟ أي عدل أن ترث أختي ثلاثة أبناء ثم تعيش نساء قاتلي زوجها وأطفالهم رغد العيش وراحة البال؟ ليتها تحرقهم.
لطالما واسيت نفسي بأن نهاية حرب الثلاثين عامًا هذه ستكون خيرًا، برغم الدم كما كانت في أوروبا، فلنتعلم بالألم كما يقول لنا نيتشه، فلندفن معاركنا كلها مرة واحدة، فليتبارز معاوية وعلي لمرة أخيرة ثم لندفنهم مرة واحدة وإلى الأبد، ولكن هل يبدو لكم أن العراق قد قطع نصف طريقه؟ أيّ ألم سيعلمنا إذا كان يصينا نحن فقط؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :