استهلك النظام السوري خلال أعوام الثورة، جميع إمكاناته لمواجهة انتفاضة الشعب السوري، لم يوفر فيها حتى باصات النقل الداخلي، فكانت شريكًا في حربه ضدّ السوريين، استخدمها كوسيلة لنقل جنوده، وحولها إلى نقاط تعذيب للمتظاهرين، وأخيرًا اعتمدها رمزًا للتهجير القسري، حتى أصبحت جزءًا من حربه النفسية التي انتهجتها وسائل إعلامه |
عايشت الباصات الخضراء خلال الأعوام الثمانية على وصولها إلى الأراضي السورية، مختلف الأحداث على الأرض السورية، وكانت شاهدًا على تفاصيل الحياة، من الاختناقات المرورية في مدينة دمشق، إلى صرخات الجرحى الخارجين من حلب. وكما تحملت أزمات ساعات الذروة وتكدّس طلاب الجامعات والموظّفين، تحملت أيضًا قساوة أقدام مقاتلي جيش النظام والميليشيات الموالية له.
في عام 2008 كانت دمشق، وللمرة الأولى، على موعد مع 600 من باصات النقل الداخلي الجديدة، المستوردة من الصين، والتي تأخر وصولها ثلاثة أعوام، إذ كانت الحكومة السورية قد وقعت عام 2005، عقدًا مع شركة “زيجيان تيميس” بقيمة 30 مليون دولار لكن المشروع واجه صعوبات تمويلية أخرت تسليم الكمية المطلوبة، وبينما كانت جسر “الرئيس” وسط العاصمة يفسح مجالًا للحافلات الجديدة التي تصل سعتها إلى نحو 80 راكبًا، كانت الصفقة بين وزارتي النقل السورية والصينية قد أتمت وسط تفاؤل كبير، ووعود بوجه “حضاري” لشوارع سوريا.
بعد وصولها إلى الأراضي السورية، لقيت الباصات الخضراء من نوع “كينغ لونغ” إقبالًا كبيرًا من المواطنين، الذين استخدموا الكروت البيضاء المخصصة للركوب فيها، وأصبحت الرغبة باستخدامها تتزايد مع اكتشاف طرق استخدام الكرت لمرتين أو ثلاثة مع العلم أن سعر الكرت كان يبلغ حينها 10 ليرات سورية، فبدت وسيلة مواصلات رخيصة ومناسبة لشريحة واسعة من السكان، الأمر الذي هدّد أعداد راكبي “السيرفيس”، ودفع سائقيه، إلى الاحتجاج على استيراد المزيد من الباصات الخضراء.
في عام 2009 قامت الحكومة السورية، بتكليف الشركة العامة للنقل الداخلي للإعلان عن استدراج عروض لشراء ألف باص نقل داخلي تعمل على الغاز وتخصيصها لمدينة دمشق، بينما شهد عام 2010 زيادة عدد الباصات المستوردة من الصين بواقع 150 جديدة مخصصة لدمشق فقط، مع وعود بإخراج “السرافيس” بشكل كامل من دمشق، مع وصول تعداد الباصات الخضراء إلى ألف.
في عام 2011 ومع انطلاق الثورة السورية، بدأت مهام الباصات الخضراء تنتقل من مجرّد “النقل الداخلي”، إلى النقل بين المدن والمحافظات، ولكن ليس للركاب، بل لجنود جيش النظام بين القطع العسكرية، وضمن مهام الحشد لاقتحام المدن، وخلال المظاهرات السلمية التي عمّت أغلب المدن السورية، حوّلت قوات الأمن باصات النقل الداخلي إلى مكان لتعذيب المعتقلين قبل إيصالهم إلى الأفرع الأمنية، الأمر الذي وثقته عدسات الناشطين.
وخلال العامين الأوّلين للثورة السورية، تعرّض قطاع النقل الداخلي لأضرار كبيرة أدّت بحسب تصريح لمدير “الشركة العامة للنقل الداخلي”، إلى خروج 90% من باصات الشركة عن الخدمة، فيما وعد مدير قطاع النقل في “محافظة دمشق” نهاية عام 2013 بتأهيل 150 من الباصات المتضررة.
عام 2014، شهد تحولًا جديدًا في عمل الباصات الخضراء، إذ استخدمها النظام السوري للمرة الأولى، لإجلاء السكان والمقاتلين المحاصرين في أحياء مدينة حمص القديمة، وإيصالهم إلى الريف الشمالي، بتاريخ 23 أيار، بعد التسوية التي قضت بخروج مقاتلي المعارضة والراغبين من الأهالي قبل سيطرة النظام على أحيائهم، ليتم اعتمادها كراع رسمي لجميع الحلات المشابهة فيما بعد.
ووفق إحصائيات رسمية صادرة عن النظام السوري، فإن أعداد باصات النقل الداخلي انخفضت من 928 عام 2011، إلى نحو 500 خلال عام 2014، بينما وصل إلى أقل من 50 عام 2015، الأمر الذي يرتبط باستنزافها خلال العامين الماضيين في الأعمال العسكرية.
وفي الوقت الذي أصبح اعتماد النظام أكبر على “الباصات الصينية متعددة الاستعمالات”، برزت حاجته الملحة لمزيد منها، الأمر الذي دفع النظام إلى زيادة عدد الباصات التابعة لشركة النقل الداخلي الحكومي، فعقد صفقة جديدة مع الصين عام 2015، استورد فيها 200 باص جديد للتشغيل.
ومع توسّع رقعة التسويات على الأراضي السورية، تحوّل الباص الأخضر خلال العام الماضي إلى رمز لتهجير السوريين، بعد أن حمل مئات العائلات من داريا، معضمية الشام، قدسيا، والهامة، إلى ريف إدلب، وبات جزءًا من الحرب النفسية بقيادة وسائل الإعلام الموالية للنظام، إذ ظهر مراسل قناة “العالم” الإيرانية، حسين مرتضى، مؤخرّا وهو يقود أحد الباصات الخضراء في حيّ الشيخ سعيد، جنوبي شرق حلب، في إشارة إلى تقدّم النظام في أحياء سيطرة المعارضة.
بينما تنتظر الباصات الخضراء اليوم في حلب، إخراج آلاف السكان المحاصرين منذ نحو ثلاثة أشهر، إلى ريف حلب الغربي، وريف إدلب، ليدفع الراكبون، منازلهم وخمسة أعوام من القصف المتواصل والمقاومة، كتعرفة ركوب لحافلة تتحرك بقرار من قناصي الميليشيات الموالية للنظام.