“رُبَّ درهم سبق ألف درهم”.. ورب صورة عرضها بشار الجعفري في مجلس الأمن، سبقت وغلبت ألف صورة من المذابح اليومية التي تعرضها التلفزيونات ووكالات الإعلام!
صور المذبحة التي ينقلها الإعلام العربي والعالمي لا تؤثر بسبب الكلل والملل والتكرار، أما الصورة التي يعرضها الجعفري، فمؤثرة بسبب المكان: منبر مجلس الأمن الدولي الذي يصيغ سياسة العالم .
الحق إن مندوب سوريا في مجلس الأمن ليس غبياً، بل إن مؤهلاته الشخصية معقولة في زمن يسود فيه السفهاء في السلك الدبلوماسي العربي، الرجل يتكلم الإنكليزية والفرنسية، وتزعم الوكيبيديا أنه يجيد الفارسية، ومعلوماتي أن الرجل من أسرة سنية من حي الميدان. والنظام عادة ما يصدر السنة للمناصب الشرفية، وهم أكثر ولاء عادة من العلوي والشيعي. إضافة إلى أنه وسيم لبصر المحايد، ربما يصلح لأدوار الشر، طويل، له سكسوكة مثل سكسوكة الشهير ماكدونالد، لحيته لحية مثقفين ونخبة أنتلجسنيا، اللحية مكروهة في الشريعة الدولية المعاصرة، فهناك شركات كبرى تنتج شفرات الحلاقة، ومن المستحب استهلاك شفراتها، استهلاك الأسلحة أحسن، نصف لحية أفضل، هناك دائما حلول شكلية لكل شيء.
المندوب مدلل يتنعم في ديباج دولتين عظميين، والحلي والحلل، مشاغب، ربما شجاع أكثر مما نتصور، ربما وقح، كما فعل مع سامنتا باور عندما قيّم سعرها بأربعين دولارا! الرجل يعرف كيف يخاطب الغرب، إنه يدغدغ خوفه وعقائده الدفينة من البعبع الإسلامي. يقهقهه السيد المندوب عندما يُسأل عن قصف المشافي والمدارس مثل مجرم رديء في أفلام إيطالية. الغرب يحبُّ اللعب والأكشن والاستثمار طويل الأمد، فالإرهاب -مسمار جحا- يمكن تعليق ما لا يحصى من المعاطف الملوثة بالجراثيم عليه، قتل الغزاة الإنكليز شعوب “الهنود الحمر” بالبطانيات الملوثة، تركيا أعادت 500 داعشي أوربي إلى أوربا، فصاروا 800، وهم يرتعون فيها؛ إما لأنّ قوانين أوروبا راقية، ولا تأخذ بالشبهة، أو لأن وراء الأكمة ما وراءها. جسم داعش لبيّس ومرن أكثر من الرجل المطاطي في حكايات ديزني لاند.
الرجل يتحدث ببطء، حبّة حبّة، كي يتيح وقتا طويلا للترجمة، وللموالين بالاستمتاع، ورفع المعنويات، يرفع بصره ويستعرض الحضور، في كل جلسة مجلس أمن له “شو” و”طرنيب”، مرة أخرج من كمه صورة آكل الأكباد، ومرة باع سامنثا باور، فذكّر الأمريكان بكل تراث هوليود من أفلام الاستشراق، وصور بيع النساء النمطية. وفي المرة الأخيرة أخرج من كمّه صورة، وعرضها على أنها صورة لحماة الديار النبلاء، الذين يفتحون الباب للسيدات، ويرفعون لهنّ القبعات! سوريا كانت دوما في إعلام النظام يوتوبيا فاضلة، وتحدث أحيانا أخطاء فردية.
صاحب السكسوكة يتأسى بوصية “الحرب خدعة”، مع شعبه ومع الدول. أما الثوار، فخلعوا جميع الأقنعة: الثوار والأشرار جميعاً، أطلقوا اللحى، أو أطلقت لعدم توفر الشفرات، ورفعوا الشعارات الإسلامية القصوى، اللحية قناع جيد، ما أحلى هؤلاء الثوار الأغبياء الذين طبقوا علينا الحدّ، وكنا نعيش على الحدّ. مرحى لهم.
الرجل يكذب من غير أن يرفَّ له جفن، يخرج من قبعته قنفذاً لممثلي الدول، ويقول: هذا أرنب، والعالم يصدِّق ويحبُّ أرانب البلاي بوي، والأرانب عموما، أو يحب أن ينخدع له. لم نرَ الصورة حقيقة سوى في الجزيرة أمس.
كان يمكن لأمريكا أن تغضب لوقاحته مع سامنثا باور، أن تغضب للصورة الكاذبة، وتطلب تغييره، وتطرده، أن تحرمه من التأشيرة، وقد سبق لها أن حرمت مندوبا إيرانيا، ثم طلبت استبداله، وسبق لها أن منعت وزيرين إيرانيين، وعشرين مرافقاً لأحمدي نجاد، ومنعت رئيس السودان، ورئيس فلسطين من التأشيرة. وكانت قد حددت حركة مندوب سوريا ضمن دائرة قطرها 40 كيلومترا في نيويورك، من المطار إلى المجلس، وبالعكس، بعد جريمة قتل الحريري، وهو لا يحتاج سوى كيلومتر واحد، من الفندق إلى المجلس، الذي حوّله إلى “شو” ومربد شعري.
النظام كان يذبح إسراراً، وصار يذبح إعلانا، لكنه لا يعترف، ويتصرف كأنه ملاك.
نُسيت المرحلة الانتقالية، وماتت جريمة الحريري بعد أن بلغت وثائقها مجلدات، والمرحلة الانتقالية في جنيف انجلت عن انتقال أهل حلب، ودوما، وسواهما إلى ما يسمى أرض المحشر إدلب، وقد بلغ من كرم فرنسا أنها أطفأت أنوار برج إيفل من أجل حلب!
النظام أنكر على لسان الرئيس صورة الطفل عمران التي أبرزها صحافي له، وقال إنها ملفقة، الثورة كانت ملفقة، كان الثوار الذين مُنعوا من برج الساعة في حمص، قد صنعوا مجسما لها في الخالدية، فزعم إعلام النظام أنها دليل على “الفبركة” والاختلاق. خمس سنوات والعالم كله ينقل الصور والدمار، والنظام لا يعترف بالجريمة. والناجون مثل علي فرزات، ومازن الحمادة يتنقلون بين العواصم لتقديم شهاداتهم، وكأنها عروض للتسلية.
النظام يخفي ويضمر وهو باطني بالعقيدة، ولا يعترف، والعالم يحب الصور التي توافق عقيدته.
على الطرف الآخر، فعل الجيش الحر بفصائله الكثيرة، كل ما يسيء إلى الإسلام، بدأت الفصائل بتطبيق الشريعة، التي تسقط في زمن الحرب. داعش بالغت بالترويع والتفنن في القتل، في رسائل منقولة بالصورة. أمس ساوى متحدث لبناني على الجزيرة، بين النظام، وبين فصائل الثورة، واستشهد بجيش الإسلام الذي حبس أسراه من المدنيين في أقفاص، وجعلهم دروعا بشرية للبراميل. وفي ذلك خفة، وجهل، فرأس النظام قتل صهره من أجل حمل ما يسميه ب “المسؤولية”. الشعب السوري عاش نصف قرن في قفص، والنظام يقتل متى يشاء ومن يشاء، لم يترك في مرحلة الجهر بالقتل مخبزاً أو مشفى إلا وقصفه، لكن الجعفري أبرز صورة من العراق، كما أبرز معلمه المعلم صورةً من لبنان، كان النظام يمكن أن يمثل مثل تلك المسرحية، فله مؤسسات بارعة في التمثيل. لكن الجريمة لا تكتمل عادة فلا بد من خطأ.
تحدّث أكثر من مسؤول أممي ودولي عن التاريخ، الذي لن يغفر سكوتهم، بعد أن ضمنوا أن الجغرافيا صارت في جيب النظام.
رب درهم سبق ألف درهم، ورب صداقة دولة مثل إيران أو روسيا، سبقت صداقة مائة دولة مثل أمريكا وفرنسا وألمانيا والصومال وجزر القمر..