الأسد باق لفترة طويلة. هذه واحدة من حقائق سوريا ما بعد حلب، والمكابرة عليها ليست أكثر مكابرة.
في سوريا، كما في أكثر من بقعة عربية وشرق أوسطية، المواجهة قائمة بين مشروع إيراني في الغالب الأعم، وبين لا مشروع عربي ما زال في إطار رد الفعل، ورد الفعل اللفظي في الغالب. هذه حقيقة أخرى والمكابرة عليها ليست أكثر من مكابرة.
بعد يومين، يكون قد مرّ عام على صدور القرار الأممي 2254، حول سوريا، الذي دعا حينها إلى بدء «محادثات السلام» في يناير (كانون الثاني) 2016، العام نفسه الذي يقفل على واحدة من أبشع تجارب حرب المدن منذ الحرب العالمية الثانية. وكأن حلب هي تفسير بشار الأسد وإيران وروسيا لـ«محادثات السلام» أو في الحد الأدنى، هي توطئة لا بدّ منها قبل هذا «السلام»!!
في مقابلته الأخيرة مع صحيفة «الوطن» الموالية له كان الأسد فجًا في التعبير عن هذا التفسير للسلام، وفي تحديد الشركاء فيه.
قال الأسد: «أعتقد اليوم أن البنية الاجتماعية للمجتمع السوري أصبحت أكثر صفاءً من قبل الحرب»، ويستطرد ليقول: «قبل الحرب كانت هناك شوائب طائفية وعرقية تنتشر بشكل خفي في عمق المجتمع، أما الآن فهذا المجتمع أصبح أكثر صفاءً». أيًا كان المحمل الذي ستُحمل عليه تصريحات الأسد، إلا أنها في العمق تعبير دقيق عن عملية التدمير الممنهج للتركيبة السكانية السورية ما قبل الثورة، وتعبير دقيق عن الإرادة الواعية خلف استراتيجية تدمير الحيز المديني، بما يمنع عودة النازحين والمهجرين من أماكنهم، ما يوصل إلى «الصفاء» الذي يبتغيه الأسد! هكذا وببساطة يفهم الأسد عملية «محادثات السلام»، وما بعد حلب، تبدو لي فترة مديدة من التعايش القسري مع نتائج جريمته المتمادية وفق خريطة طريق قد تمتد سنوات.
مرّ عام ولم تبدأ هذه المحادثات المنصوص عليها في القرار 2254، والحقيقة أنها لن تبدأ، نتيجة الإلغاء العملي لما يسمى المعارضة السورية، حتى وإن بقيت كجسم معترف به هنا أو هناك! فلم يعد الشعب السوري أو مكوناته جزءًا من معادلة عملية السلام والعملية الانتقالية في سوريا. أقله أنهم ليسوا جزءًا أو شرطًا من شروط انطلاقها.
المصير السوري معلق على تفاهم فلاديمير بوتين ودونالد ترامب والسرعة التي سيبدأ بها هذا التفاهم والسرعة التي سينمو بها نحو تفاهمات نهائية. وهو معلق أيضًا على قدرة هذا التفاهم على تعطيل الشغب الإيراني عليه وتجاوز حسابات إيران ومشروعها الذي يقف خلف فكرة حمايته لنظام الأسد في الأساس.
أي افتراض واقعي، سيأخذ بعين الاعتبار أن ترامب سيتسلم الرئاسة الأميركية في العشرين من يناير، وسيحتاج في الحد الأدنى إلى مائة يوم لتتضح لديه ولدينا الاتجاهات الاستراتيجية لإدارته في الملف السوري وعموم ملف الشرق الأوسط بأوراقه الكثيرة. نكون قد وصلنا إلى 20 أبريل (نيسان) 2017.
والافتراض الواقعي سيأخذ بعين الاعتبار أيضًا، أنه منذ لحظة التفاهم الروسي الأميركي، إن حصلت، سننتظر ثمانية عشر شهرًا للوصول إلى انتخابات تأخذ سوريا إلى مرحلة جديدة وفق المادة الرابعة من القرار الأممي 2254، فلو حسبنا هذه المدة أنها تبدأ بعد مرحلة المائة يوم لترامب في البيت الأبيض نكون قد وصلنا إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2018، لإجراء انتخابات في سوريا وفق دستور جديد يكون قد تم إقراره خلال هذه الفترة. حتى انتهاء المأساة السورية وفق هذا الجدول الزمني يبدو مبنيًا على تفاؤل لا تسنده الوقائع. وليس مستبعدًا أن يُكمل الأسد ولايته حتى منتصف عام 2021.
فواحدة من الاستراتيجيات الضمنية لبوتين، هي إنهاء فكرة تغيير أي نظام عبر القوة العسكرية، وأن آخر نظام ستسمح موسكو بتغييره هو نظام معمر القذافي!
حلب لن تكون نهاية الثورة السورية، وهي لم تكن بدايتها. فطوال الأشهر الأولى من الثورة كانت أكثر السجالات رواجًا على ألسن أنصار النظام أن المدن الكبرى أي حلب ودمشق لا تزال خارج الثورة. ولطالما استخدم ذلك كدليل على ضعف الحاضنة الشعبية للثورة السورية. شهدت حلب في بدايات الثورة مظاهرات أسبوعية كما في بقية أنحاء سوريا لكنها بقيت دون الزخم الاحتجاجي في مناطق أخرى لا سيما حمص. ثم أعلنت تنسيقيات الثورة يوم الخميس 30 يونيو (حزيران) 2011 «بركان حلب» الذي شهد ارتفاعًا في حدة المظاهرات. وفي 12 أغسطس (آب) 2011 شهدت حلب المظاهرة الأكبر حتى ذاك التاريخ تحت شعار «جمعة لن نركع إلا لله». وقد استمر النمو الاحتجاجي يتصاعد إلى حين وصوله لنقطة تحوله الكبرى يوم الثلاثاء 6 سبتمبر (أيلول) إذ نجح الحلبيون في تحويل جنازة تشييع مفتي حلب إبراهيم السلقيني الذي كان قد توفي قبلها بيوم، إلى أكبر المظاهرات السورية ضد النظام.
أيًا يكن ما جرى في حلب، فهو محطة في درب الجلجلة السورية الطويل. ويوم يرحل الأسد، لن يكون قد بقي من سوريا إلا ذكرى وطن ومن السوريين إلا بقايا شعب سكن إحدى أقدم بقاع العالم في التاريخ.