في هجاء ثورة مهزومة
رغم المكابرة، والقول بأن خسارة حلب ليست نهاية المطاف، يمكن بسهولة تلمس الإحساس بالهزيمة لدى نسبة لا يُستهان بها من المعارضين. حتى أصحاب شعارات النصر الجوفاء كفّوا عنها خجلاً من الواقع، وبرز لدى البعض حس نقدي كان غائباً من قبل، بينما بدأ الإحساس بالندم يتسرب، بلا خجل من إعلانه هذه المرة، إلى قسم آخر ما يذكّرنا بمقولة “عودة الابن الضال”.
كل هذا، وفوقه ما ستشهده أطر المعارضة السياسية والفصائل العسكرية من تشقق وتهافت، أمرٌ متوقع على قاعدة التنصل من مسؤولية الفشل. ينبغي الاعتراف بالثمن الباهظ الذي دُفع حتى الآن، وبمصيبة دفعه بلا مقابل كما تلوح التسويات الدولية المطروحة. كانت تنحية رؤوس النظام لا تزيد عن جائزة ترضية أمام مئات آلاف القتلى، أما الحرمان حتى من هذه الترضية فهو قتل متعمد لأية قيمة يحملها الدم السوري. هذا لا يعني فقط هزيمة الثورة سياسياً، بل قهرها في نفوس أبنائها وتصويرها نوعاً من العدم السياسي والأخلاقي، في عالم لم يُظهر أدنى وازع أخلاقي.
لا تخرج كل المظاهر المتوقعة، بما فيها هجاء الثورة بعد مدحها أو الإيمان بها، عن المتوقع في حالات الهزيمة. فالهزائم الكبرى تكفلت دائماً بتوليد أنواع من الفصامات الجماعية، ومتى دخلنا في الآثار النفسية لها سنفتقد المحاكمات العقلانية، ومن المرجح الدخول في متاهة من الانفعالات التي يستمد كل منها شرعيته مما حدث حقاً، بخاصة مع تعقيد ما حصل في الواقع، ومع عدم وجود مسار جديد واضح يغلق خلفه باب المتاهة.
أول ما قد نعاينه في خضم الانفعال هو تثمين الذات واعتبارها مسؤولة حصرية عما جرى، دون النظر إلى حركة التاريخ التي أدت إلى تشكيل مجموع الذوات على هذا النحو، وإلى تهيئة الظروف المناسبة للانفجار الكبير. هكذا، على سبيل المثال، ليس من حقنا أن نفترض وجود خيار أمثل لدى البوعزيزي عندما قرر حرق نفسه احتجاجاً. استطراداً، كان فعل البوعزيزي في حد ذاته فعلاً عدمياً، لو لم تتلقفه الظروف الملائمة لتجعل منه سياسياً، حتى إذا انقلبت الظروف ثانية لتجرده من دلالاته المكتسبة.
في سوريا كانت كل الظروف مواتية للانفجار الكبير، توقيته مسألة أخرى، النظام نفسه يدرك أنه هيأ للانفجار القادم وكان يتحسب له مسبقاً، وفي هذا النوع من الأنظمة لا تخرج الثورات إلى العلن إلا بعد أن تُستنفذ الحروب الصامتة. لكن أيضاً يستحيل أن تكون ثورات بيضاء، إذ قلما انقلب نظام مشابه على نفسه. المثال المصري يوضح عجز النظام عن الانقلاب على ذاته، فهو لم يحتمل اللعبة الديمقراطية طويلاً وأعاد إنتاج أسوأ ما في عهد مبارك، أما المثال اليمني فيبيّن هشاشة التسوية مع نظام لا تقبل بنيته المشاركة إطلاقاً.
أهم مظاهر الهزيمة هو جلد الذات، فهو يعني في ما يعني استحقاقها الهزيمة بالمطلق، ولا يختلف في جوهره عن تحميل الآخرين المسؤولية المطلقة والوقوع في فخ المظلومية. ليس مستبعداً بالطبع المزج بين الاحتمالين، كأن تُجلد الذات لأنها لم تدرك “لاأخلاقية” العالم. هذا نموذجي في المظلوميات عموماً، إذ تبدأ باللطم وتنتهي بكراهية الآخرين أو العكس. وجلد الذات يجلب من الراحة ما لا تجلبه متاعب النقد، تماماً مثلما قد يجلب التسليم بالهزيمة راحة تفوق عدم الاستسلام لها؛ عدم الاستسلام لها مختلف بالتأكيد عن نكرانها عندما تقع.
بعض تبادل الاتهامات ضمن بيئة الثورة وإن سعى إلى تبرئة الذات إلا أنه على الأغلب يضمر ذاتاً عاجزة، لم تمتلك الفعالية المطلوبة في وقتها، وفي المحصلة لا يبتغي بعض الاتهامات سوى التخفيف من وقع الهزيمة على النفس. وفي حالة نموذجية أخرى نرى تلك الاتهامات التي تطاول المهجرين، وكأنها تلوم معظمهم على تجنب الموت، التعبير السياسي عن الاتهام هو تجريد المهجرين من حقهم في إبداء الرأي، أي تجريدهم من سوريتهم فقط لأنهم صاروا في مأمن. في الجانب المقابل لا نعدم بين اللاجئين من يحمل إحساساً بالذنب لأنه بقي على قيد الحياة، وسنرى كثراً ممن يعلنون صراحة على وسائل التواصل الاجتماعي عدم أحقيتهم بإبداء الرأي. الطرفان يكادان يلاقيان رؤية رأس النظام تماماً الذي قال مرة أن سوريا لمن يقاتل من أجلها، وأشاد مرتين بالنسيج الاجتماعي للبلاد بعد تهجير الملايين.
وجه آخر من وجوه الهزيمة يتجلى في القول بأنها كانت محتمة، وبأن النظام محمي من قوى لا طاقة لنا على مواجهتها، أي أن الثورة من أساسها كانت فعلاً خاطئاً. هذه مقولة تلغي النقاش والنقد، وتدعو إلى استراحة العقل، وإلى انتظار التغيير من تلك القوى نفسها عندما تتغير حساباتها. كل من قُتل، وفق هذه المقولة، قُتل نتيجة قرار خاطئ اتخذه بنفسه أو بالتبعية، وكل مدني تعرض للإبادة تقع مسؤولية قتله على الذين ثاروا في الوقت غير المناسب، أما المجرم الذي أبادهم فهو ليس موضع نقاش لأنه قام بوظيفته المعروفة سلفاً!
لم نعرف كيف ننتصر، هذا صحيح في ما يخص المسؤولية عن الأخطاء، يبقى أن نتعلم كيف نتقبل الخسارة، وكيف لا تكون قاضية. ذلك لم يعد يتعلق بإعادة النظر بمجمل الأخطاء التي ساعدت على الوصول إلى هذه النتيجة، إنه انحياز أخلاقي في المقام الأول، انحياز إلى الضحايا، بمن فيهم الذين زجهم النظام في مواجهة الثورة، والذين لم يكن لهم خيار آخر. لأن هذا الدم السوري غالٍ لا يجوز اعتباره كأنه لم يكن؛ هذه ليست دعوة لاستجلاب ضحايا جدد، هي أولاً من أجل تثمين دماء السوريين الآن ومستقبلاً، إذ بغير ذلك نفقد حتى ذلك المعنى النبيل للحزن.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :