20 شباط 2003، قال جورج بوش الثاني ، في خطاب خلال مأدبة رسمية: “نلتقي هنا اليوم في مرحلة دقيقة من تاريخ أمتنا والعالم المتحضر. ان جزءاً من ذلك التاريخ كتبه الآخرون. الباقي سوف نكتبه نحن”. الذين سمعوه، أو قرأوا ذلك الكلام، شعروا أن العالم مقبل على خراب فادح: رئيس الولايات المتحدة، المعروف بجهله للتاريخ، القديم أو المعاصر أو الحديث، مصاب بالغرور، وفوقية لوثة الحرب.
كان بوش الثاني محاطاً برجال في مثل فئته، نائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد. وهذه المفرزة قررت أنها سوف تغيِّر الشرق الأوسط. أو ما سماه وزير خارجيته كولن باول، المفترض أنه متعقل ومعتدل، “الشرق الأوسط الجديد”. والشرق الأوسط الجديد كان يقتضي في خطة المفرزة البوشية، ضرب العراق، ثم سوريا، ثم ايران. ثم بسط الديموقراطية في الدول الثلاث. ثم يذهب “العالم المتحضر” إلى النوم مرتاحاً، لا يتطفل أحد على احلامه السعيدة.
بعض الذين ايَّدوا فكرة ضرب العراق في الصحف العربية كانوا يقولون إننا امام يابان أخرى: يخلع الاميركيون النظام، ويفككون النزعة العسكرية، ويبعثون ماك ارثر جديداً إلى بغداد لإرغامها على الاقتناع بأن الامبراطور ليس إله الشمس. لكن الاميركيين دخلوا العراق، فوجدوا فيه عراقيين. واكتشفوا أن فكرة أن التاريخ يكرر نفسه، انطباع ساذج، لأن التاريخ قائم على المفاجأة، لا على ادب المقارنات. والجهل بالتاريخ الحديث أنسى بوش الثاني ومفرزته أنه قبل ربع قرن فقط، هُزمت اقوى قوة في التاريخ في مستنقعات وحقول الأرز، في فيتنام وكمبوديا واللاوس.
اعتقد أن كل شيء بدأ في العراق. بوش الثاني ارسل، بدل ماك آرثر، بول بريمر، الكاوبوي المتمدن، وبالتالي من دون قبعة وسيعة، ربطة عنق ومعها حذاء رياضي. من تلك اللحظة، بدأ كابوس الخراب في الشرق الأوسط الجديد والقديم، الذي لم يبق أحد إلا وحاول تغييره. يروي هيرودوتس، “أبو التاريخ”، أن عاصفة دمرت الجسور التي بناها الامبراطور الفارسي أحشويرش لعبور الدردنيل من آسيا إلى اوروبا. “فغضب غضباً شديداً وأمر بجلد المضيق 300 جلدة ورمي اغلال حديدية فيه لتقييده”.
وقف وزير خارجية فرنسا، دومينيك دو فيلبان، أمام الأمم المتحدة، يعرض تاريخ الحروب في أوروبا وما فعلت بالقارة، ويناشد واشنطن عدم معاقبة الدردنيل. ولعل دونالد رامسفيلد كان يرد عليه، عندما قال لاحقاً، ان القارة القديمة اصبحت عجوزاً. نسي أنها اصبحت حكيمة ايضاً، ولذا، قال جاك شيراك إن الحرب سوف تفتح أبواب الجحيم. أو اكثر من جحيم.
كنت بين الذين كتبوا يومها أنه في ظلام الاحتلال والديكتاتورية، سوف يعشب الارهاب ويخصب. ولكن لم يكن يخطر في بال، أو في مخيّلة احد، أن بعض الضباط الذين صرفهم الكاوبوي بريمر من الجيش العراقي، سوف يعوضون مذلتهم بالمشاركة في إقامة “داعش”.
الديموقراطية بالمظلة، التي حاولها جورج بوش، حاولها باراك أوباما من تحت. شجع “الثورات” العربية التي تحولت إلى خليط مفجع ومضحك من الاخوان المسلمين، والسلفيين، والليبرالين، ووائل غنيم. ولا تزال في ذاكرتنا جميعاً صورة وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون، تعرض ابتسامتها العريضة في “ميدان التحرير”، أو تخاطب معارضي سوريا بالقول “اقتلوهم”. كما في الذاكرة خطاب رئيسها اوباما عن حسني مبارك: “ارحل، أمس”.
خُيّل إلى معارضي الأنظمة، من تونس إلى سوريا، أن واشنطن أعدت لهم كل اسباب الدعم. ها هي تطل ومعها لحاف الديموقراطية، وبطانية الحريات. وليس على مبارك فقط أن يرحل، بل على الأسد أيضاً. وذهب سفيره روبرت فورد من دمشق إلى حماه. وإذ اقتضت المعركة ضد القذافي احضار حاملة الطائرات إلى البحر الليبي، أُحضرت. وقُصِف الأخ العقيد واعتقل في مصرف صحي. اما العدو الآخر صدام حسين، فتُرك لعدالة القانون العراقي، يُنَفّذ فيه حكم الاعدام صبيحة عيد الأضحى.
تلك هي “الفوضى الخلاقة”. لكن الفوضى كانت في السياسة الاميركية، وليس فقط في صفوف خصومها. ورسم اوباما خطوطاً حمراء في كل مكان، ثم نام عليها. وفي غفوته الطويلة، ظهرت في المنطقة قوتان عسكريتان، روسيا وايران. وعندما رأتا ماذا حدث لـ”الشرق الأوسط الجديد” الاميركي، سارعتا إلى رسم شرقهما الجديد، مبنياً على ابقاء الانظمة بدل تغييرها، وعلى الدفاع عنها بالاساطيل والصواريخ، فيما تراجع أوباما إلى مجرد شريك لأيران في العراق، وانسحب من كل مكان آخر، يجرجر خلفه خطوطه الحمراء، مكتفياً بإرسال وزيره جون كيري إلى عواصم أوروبا، يفاوض ويحاضر، ثم يحاضر ويفاوض. وآخر ما قاله في عبقريات السياسة الاسبوع الماضي، أن “المسعى السلمي لا يزال على قيد الحياة”.
طُبع التصريح بأحرف ملونة في مطابع حلب. وحوَّله أطفالها إلى لازمة في نشيد المدينة. وعزفت الفرق الموسيقية في الحدائق أوبرا اشتركت فيها امهات المدينة، وطاف الاطفال في الشوارع يغنون بصوت فرح واحد: كيري، كيري، شكرا كيري، ماتت حلب، وبقي المسعى السلمي حياً!
رأى مثل هذا واكثر في فيتنام، عندما قاتل المستر كيري هناك. وشهود الحرب العالمية الثانية يقولون إن حلب لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه درسدن وبرلين على ايدي الحلفاء، أو فرصوفيا على يدي هتلر، فلماذا التسرع؟ خصوصاً أن هذا الباهت بان كي-مون، يعد بيانا جديداً يعرب فيه هذه المرة، ليس عن القلق فحسب، بل عن القلق البالغ.
هناك تمساح اسمه الاسرة الدولية. وهذه الاسرة تغط في النوم وغير النوم، فيما دول العالم تتمزق وأُسر العالم تتشقق، وفلاديمير بوتين يدك حلب حتى الرماد، لكي يمحو من ذاكرة التاريخ ما فعله ستالين ببرلين.
بدأ بوش الثاني برسم شرقه الاوسط من بغداد، ويبدأ بوتين المتكرر، برسم شرقه من حلب. وسوف يكون هذا الشرق دموياً اكثر من الماضي. وسوف يصغي العالم إلى مزيد من لغة العنف والفظاظة. والعالم المتمدن الذي يمثله الآن دونالد ترامب، الذي يحشو ادارته بجنرالات العنف والعنصرية والرفض، لكي يعطي العالم فكرة بسيطة عما ينتظر أهل هذا الكوكب بعد 20 كانون الثاني المقبل.
أيام أنور السادات أُدخل الكاتب الساخر محمود السعدني السجن لأنه قال لصديق له على الهاتف “داكَ (ذاك) موِّتنا من البكا، ودا حيموتنا من الضحك”. لا حل وسطاً. انتهى العصر الذي كان فيه “العالم المتمدن” ينتخب الرجال الذين يصنعون الازدهار والسلام والوئام. موجة عاتية من لغة الحروب آتية في كل مكان. وروسيا ترث في الشرق الأوسط.
“أميركا مريضة” كما ورثت أوروبا الامبراطورية العثمانية المتهالكة. ولن ينفع جنرالات ترامب في شيء. لقد رسم بوتين الخريطة ووضعها في جيبه. تابعوا ما يحدث عندما يحكي، أو بالأحرى عندما لا يحكي. راقبوا ماذا حدث عندما “صَمَتّ” على تصريحات رجب طبيب اردوغان وكيف سارع هذا إلى توضيحها: خارج السياق، ومجتزأة، يا صاحب السيادة. شاهدتُ مرة فيلم رسوم متحركة للكئيب تشارلي براون: “هل تسمح لي يا سيدي الذئب بأن اصارعك وانتصر عليك”؟
ضحك الذئب وانصرف سعيداً إلى النعاج والحملان. عليك أن تختار من التاريخ الامثولات التي يجب أن تختارها، وليس التي يطيب لك اختيارها. احداها أن هواة الحروب لا يتوقفون عند شيء. داريوس ونابوليون وهتلر. بدأت حرب بوش الثاني على العراق في 20 آذار، وسقطت حكومة صدام في 9 نيسان. لكن الحرب نفسها لم تنته بعد. الغطرسة تنتهي دائماً بالهزيمة، يقول هيرودوتس. وإذا لم تفد روما وفارس وبريطانيا والمانيا واميركا، فلا يمكن أن تفيد روسيا القيصرية أو السوفياتية.
الدرس الأول في التاريخ، اياك والمقارنة. العراق ليس اليابان. حلب ليست قزوين. الشرق الأوسط سوف يمضي وقتاً طويلاً قبل أن يظهر فيه ديغول أو اديناور، أو من يؤسس لوحدة اوروبا مثل موريس شومان، أو فيلي برانت آخر. نحن بلاد داحس والغبراء. وفي امكاننا أن ندمر الأرض من أجل فرس وحصان، ثم نصفق لعنترة وقد خطر له تقبيل السيوف لأنها لمعت كثغر عبلة مبتسماً للدماء.